ناصر الزعبي جملة قالها صديقي مازحًا ونحنُ في سهرةٍ شبابيّة داخل قهوة شعبية، ليعمّ الصمتُ لدقائق معدودة، يتبعه ضحكٌ صاخبٌ مجبولٌ بأدوات التمنّي كلّها. بالنسبة لي، لم تكنْ هذه الجملة مزحة قطّ، عدتُ إلى منزلي الصغير جائعًا، لأجد "المجدّرة" تلك الطبخة التي نأكلها لليوم الرابع على التوالي، فقد أثمرت أحشاؤنا عدسًا، ونبتت منها، أكلت منها قليلًا لأسدَّ بهَا عويلَ جوع جوفي المدقع، توجهتُ مباشرة إلى غرفة نومي، أو غرفة نومنا، أنا وأخوتي الخمسة، سريري كان عبارة عن فرشة اسفنجيّة ممدودة على الأرض، ولحافٌ يقي معدتي صقيع ذاك الطعام الدسم! أفرغتُ كلّ ما برأسي من بعثرات أفكار، وصببت تركيزي على تلك الجملة. مكثتُ ثلاث ساعات بين تفكيرٍ، أحلام هجرة وتخطيط، كأنّني أخذتُ الفكرة هذه على محمل الجدّ، استيقظتُ صباحًا، وأذكر منامًا رأيته في غفوتي، أودّعُ أهلي وأصدقائي عند المطار، متوجّهًا إلى طائرة كبيرة تأخذني لبلاد بعيدة، حيث العمل والمال فيها وفير. انتظرتُ مساء اليوم لنعاود جلستنا اليوميّة، كنتُ متعطّشًا لوصولهم، من شدّة لهفتي حضرتُ قبل موعدنا الروتينيّ بنصف ساعة. كانت أطول نصف ساعة أنتظرهم بها ، جميعهم عاطلٌ عن العمل، ما الذي يمنعهم من المجيئ باكرًا؟ بدأت أحدّثُ نفسي، والأفكار تلتهمني، ليصلوا واحدًا تلوَ الآخر. _مذ البارحة وأنا أفكر في جملتك، لمَ لا نهاجر؟ ما رأيكم حقًّا أن نخرج من هنا؟ ردّ عليّ صاحب الجملة : _ أنا لا مانع لديّ، وعلى استعداد تامّ بالرحيل من هنا. _ولكن من أين لنا المال لحجز مقاعد في طائرة، ولجوازات السفر ووو... _ نستطيع الرحيل عبر البحر، هجرة غير شرعية، على ما يسمّونه "زوارق الموت" ولكن اسمها غير صحيح، ألم ترَون شباب الحيّ كلهم وصلوا بنفس الطريقة؟ اختلفت آراءنا بين قبول ورفض لنقرّر أخيرًا جميعنا الموافقة عدا اثنين. عدتُ الى منزلي متحمّسًا، فرحًا، سأسافر بعد أيّام، سأجتهد، وأعمل وأجني أموالًا كثيرة، دخلتُ المطبخ كالعادة، فوجدتُ "طنجرة" بدت لي أنها طبخة جديدة غير "المجدرة" فتحتها، نعم غير كانت "شوربة عدس"! سكبتُ منها صحنًا كبيرًا، أكلتها بلهفةٍ كبيرة، كأنّني جاهلٌ طعمها، ومُتذوقها للمرة الأولى. كانت الدهشة واضحة على وجوه أهلي، فأنا المتذمّر الدائم لطعم العدس، سألتني أمّي باستغراب: _غريب، لمَ تأكل بهذه الشراهة!؟ _ أنا سعيد يا امّي، لقد تحقّق حلمي، سأسافر بعد عدة أيامٍ إلى تركيّا، ومن بعدها سأتوجه إلى ألمانيا. _كيف ستسافر، من أين لك المال، لمَ الغربة يا ولدي؟ أتتركُ بلدك، بيتك، أهلك، أتترك لمّتنا الجميلة، لمَ يا بنيّ؟ _ بلدي! الحيُّ بلا روح؟ ماذا قدّم لي هذا العاجز؟ بطالة، فقر، جوع، عوَز؟ ألستُ متغرّبًا هنا؟ اليس ظلمًا أن أعيش في وطني ولا أملك مصروف يومي؟ أليس ظلمًا أن نأكل عدسًا لستة أيام متتالية؟ أليس ظلمًا أن أُمنَعَ من الحلم أيضًا؟ سأسافر كما كلّ شباب الحيّ، هجرة غير شرعية عبرَ البحر. _ لا، أَخرج الفكرة من رأسك، لا سفر بهذه الطريقة، خطرها كبير. _سأسافر، يعني سأسافر. في صباح اليوم التالي، استيقظت على نغمة هاتفي، اتّصالًا من صديقي _الو، صباح الخير _صباح الخير، عليك تأمين أربعمائة دولارا أمريكيا، مئتين منهم قبل خروجنا من الأراضي ومئتين بعد وصولنا إلى تركيّا، ووضّب أغراضك وملابسك اللازمة سنرحل بعد غد. على الفور توجهت إلى سيارتي القديمة، متآكلة الحديد، لا تسير، يلزمها الكثير من التصليحات، فقد أكل الدهر عليها وشرب، أتَيْت بميكانيكي ليفرطها، فلا تباع الا فرطا، حصّلتُ منها ثلاثمئة دولارا فقط، وقصدت قريبًا أقترض منه مئة أخرى لأكمل المبلغ، فحصل ما أريد. جاء اليوم الموعود، ودّعتُ أهلي وإخوتي بحرارة، وأخذت معي دعاء والدتي، ما عَزَفت عنه دقيقة، ألقيتُ نظرة أخيرة على طبق "شوربة العدس" ومشيت. وصلتُ أنا أولًّا إلى المكان المحدّد، ليأتوا بعد دقائق معدودة بالتوالي، انطلقنا سويًّا إلى الميناء الذي سننطلق منه، وتولد معه حياة جديدة، بلا ذلٍّ أو تعاسة، تكون مزهرة كالربيع، ويكون الفرح فيها كألوان وروده. ما إن وطئت أقدامنا، أرض الميناء ليصرخ صديق لنا : _ لقد نسيت المال في جيب البنطال!(قالها وكاد غضبه أن يخرج عيونه) _ هل يملك أحدنا فائضًا في ماله؟ _أنا أملك خمسين دولارا فقط _ لا مالًا ايضافيّا لدينا، ولا وقت، عد إلى منزلك، عندما نصل إلى تركيّا، وتكون أمورنا على ما يرام، نرسل لكَ لتأتي، لا حلّ سوى ذلك. ودّعناه بحسرة، والدموع تهطل من عينيه كمطر منهمر، سيعود إلى سجنه الواسع، والفقر ينهش منه، يقطعه الجوع إربًا، فلا نصيب له بالحريّة، والحياة في جنّةٍ حقيقية. خسرنا رفيقًا لنا في دربنا الطويل، لنصبح ستة أصدقاء، تشاركنا الحياة بفرحها وترحها، ترعرعنا سويّا في نفس الحيّ، كنّا معًا على المقاعد الدراسيّة الأولى، بكينا معًا وضحكنا معًا، وتركناها معًا، وصبرنا على الجوع والظلم والفقر معًا. أصبح جاهزًا زورقنا المنجيّ، صعدناه، لترسم الدهشة على وجوهنا قناعًا. _ما كلّ هذا الجمع الغفير!؟ ليجاوبني قبطان الزورق الهزيل : _اصبروا، ساعات قليلة ونصل، وتنجٌوْن من همومكم، وتنسَون رحلتكم هذه المتعبة، لا نريد فضائح، اجلسوا وبلا كثرة كلام وتفصّحات. بدأت الرحلة المرعبة، كيف لا وزورق صغير يتسع لخمسة عشر شخصًا فقط، يوجد عليه خمسين! جلستُ والجميع متلاصق، بل كان بعضهم يجلسُ على البعض الآخر، فأنا مثلًا، جلست امرأة ثمينة على رجلي اليمنى، قلتُ لنفسي سرّا "تحمّل يا صبي كلها أربعة ساعات". كان المشهد مؤلمًا جدّا، الجميع هاربٌ من هذا البلد، تاركًا أهله وأصدقاؤه، أكثر ما آلمني وجود أطفال مع ذويهم على الزورق، أي وضع هذا سمح للأب أن يعرّض صغاره للخطر؟ بعد ربع ساعة من المسير وكان البحر متوسّط الهيجان، اشتدّ الخوف على شخص خمسيني، فبدأ يتقيّأ واصفرّ لونه. _يعاني من مشاكل في ضغط الدم ( هذا ما قالته امرأة تصاحبه، تبدو زوجته) تتدهور حالته كلما تقدمنا، فالواضح أنّ ذبحة تصبه صرخت لها: _ألا يوجد معكِ حبة دواء؟ _لا، فقد قاطع دواؤه عندما ترك عمله. _أنا يوجد لديّ مميع للدم، فأنا أعاني أيضًا من مشاكل في القلب( قالتها الأَم التي جلبت معها أطفالها الأربعة وبينهم رضيع) وضعت زوجته حبة الدواء في فمه، وقبل أن نعلم فعاليتها عليه؛ صاح القبطان : _كارثة، كارثة لقد نفذ البنزين من الزورق، ونحن قد قطعنا الحدود اللبناية. _وماذا يعني؟ _سنبقى هكذا لنجد أحدًا صدفة. نزل الكلام هذا كصاعقة أصابت الجميع، تسرب الرعب من فاه القبطان وتملّكنا. تراشقنا كلماتٍ معه، صراخنا دوّى، تبادلنا الشتائم، هرج ومرج، لنرفع الراية البيضاء أخيرًا للواقع. ساد الصمتُ على مَن في الزورق يخترقه بعض الهمس لطلب أمورّ ضروريّة من ماء، طعام، دواء، وحتى قضاء حاجة. بزغَ الفجرُ، والأمور تذهب للأسوء، وبعد تفكير وجدال عقيم، قرّر ثلاثة شباب من أصدقائي النزول لميدان ظالم قد يهلكهم، قال أحدهم: _ انتظرونا لبزوغ فجر يومكم التالي، إن لم نعد وادعوا لنا بالرحمة وأكملوا مسيركم . ودّعناهم كلامًا، فلا سعة بالمكان لغمرهم، قفزوا في البحر، فقفزت معهم روحي المتعلقة بهم، ودموعي تروي قصة أبطالها ثلاثة سيخلدّها التاريخ، لفّ الغضبُ طوقًا حول عنقي، لدرجة أنّني أبعدتُ المرأة الثمينة التي تجلس على قدمي بالقوة. رجلي مخدّرة، لا أستطيع تحريكها أبدًا. _ لاااااااااا، ثم بكاء شديد _ما بكِ؟ لمَ هذا البكاء _ زوجي لا يتنفّس (قالتها بتقطع). مات الرجل الذي أسعفناه سابقًا بحبة مميع، ليصمت الجميع عدا بكاء زوجته. حلّ المساء، الوضع مزري جدًّا، لا أثر حتى الآن للرفاق الثلاثة، حالة وفاة على الزورق، الطعام والشراب سينفذ، ماذا بعد؟ مضى الليلُ سريعًا، لم يرفُّ لي جفن، سلسلة أفكار تهاجمني، ككل الموجودين، ولكن أملنا الآن عودة من خاطروا بأنفسهم لأجلنا. توسطت الشمس الحارّة سماءنا الحزينة، ولا أثر لهم. _ما العمل الآن؟ الشبّان الثلاثة لم يعودوا، نحتسبهم شهداء باذن الله. _سنحاول نحن اليوم ( قالتها مجموعة من خمسة شبان لا أعرفهم) رمَوا أنفسهم بالبحر غير آبهين لمصيرهم، شجاعة وفدوة منهم للهاربين من ظلم الحياة، وللمحاولين العيش بكرامة. حلّ الليل أيضًا ولا أثر لأحد منهم. قررتُ أن أنام فالنعاس سيطر عليّ، أغمضتُ مقلتيَّ وسندتُ رأسي على كتف صديقي بجانبي. استيقظتُ اليوم التالي باكرًا، على بكاء الأطفال، نفذ الطعام والماء، فلا أحد يملك كسرة خبز ولا شربة ماء. اغرورقت عينيّ، كنت جائعًا جدّا، خطرت ببالي فورًا "المجدرة" تلك التي كنت لا اطيقها. آه كم اشتقت لطعمها، ليت الزمن يعود بي كي لا أتذمر عليها أبدًا. حالات إغماء تحصل من أثر الجوع على الأشخاص الذين يعانون من بعض الأمراض، والأطفال الذين أرهقهم الجوع والبكاء. قررتُ التضحية بنفسي، وقلتُ لهم، حاول صديقاي منعي، لكنّي كنتُ مصمّمًا. قفزت للماء وسبحت بعكس مسير من نزلوا قبلي، باتجاه واحد، سبحت وسبحت حتى اختفى الزورق عن ناظري مساءا. ظلام دامسٌ، وصقيعٌ ينهك جسدي، وجوع يمزق أحشائي، وظمأ ينشف عروقي الضعيفة. ليلة قاسية جدّا، لكن الإرادة جعلتني اتغلبّ عليهم جميعًا، إنقاذ الأطفال والجميع حتى نفسي كان هدفي الأول وكان داعمي. اليوم الخامس لنا على الزورق ويومي الثاني لي في الماء، كنت أفكر بحال من على الزورق، ما الذي حلّ بالأطفال كل هذه الأفكار كانت تدعمني وتشدّني لإكمال ما بدأت به. حلّ الظلام أيضًا لأرى ضوءا من مكان بعيد جدًا، لا أعرف ما هذا ولكن أكملت سباحتي ليلًا باتجاهه. مرّ الليل كله سابحًا، وولد فجر جديد، لأعلم أنها سفينة كبيرة نوعا ما، قلت في نفسي : _هذه إشارة من الله، لا تضعف، تشجع وأكمل مسيرك لانقاذ الجميع. _هذه إشارة من الله، لا تضعف، تشجع وأكمل مسيرك لانقاذ الجميع. سبحتُ أيضًا تحت أشعّة الشمس الحارقة، كنتُ عندما تصبني الحكّة، أستخدم أصابعي لا أظافري، لأن اللحم كان يذوب إثر تعرضه للشمس والملح. سبحتُ ولم أهتمّ لجوع ولا تعب ولا لعطشٍ، وصلتُ للسفينة أخيرًا، رفعوني إليها لأخبرهم عمّا حصل، وعلى مكان الزورق، شعرتُ بعدها بتعبٍ شديد، كأنّ روحي تريد مفارقتي، أغمضتُ عينيّ فاقدًا وعيي. فتحتُ عيوني على صراخٍ وعويل، وكانت حالتي متحسّنة نوعًا ما، لأجد صديقاي بقربي، كانوا فرحين جدّا بعودتي للحياة، وفخورين بالتضحية التي قدمتها لجميع من أُنقِذوا، فسألتهم : _أين نحن؟ _ نحن على الشواطئ التركيّة _ الحمد لله، قلتها مبسمًا _ لا تفرح كثيرًا، انظر إلى خفر السواحل، سيردوننا من حيث أتينا. في اليوم التالي، رحّلونا على ضمن طائرة، معزّزين مكرّمين، لنصل الى المدينة التي انطلقنا منها، عدت إلى منزلي بعد مغامرة أقلّ ما يقال لها، أنّها معجزة. لأعلم بعد أيام، بأنّ والدي قام بالابلاغ عنّنا للجهات المختصة، التي تواصلت مع الحدود البحرية التركيّة وأخبرتهم فكانوا لنا بالمرصاد، ولكل الزوارق المهاجرة، لنتشاجر سويّا وأهدده بتكرارها عندما تسمح لي الفرصة. وأجدُ أيضًا، بأن زورقنا أصبح قضية رأي عام، فقد شاهدت على التلفاز، بتصريح لإحدى المذيعات: وفاة شخص وأربعة أطفال على زورق غير شرعي وفقدان سبعة أشخاص حتى الآن، غير معلوم مصيرهم. _ أمي، إنّي جائع، ما الأكل اليوم _ مجدرة.