المقالات والسياسه والادب

الأعراب من أتباع النبي إلى أعداء ذريته



قراءة تحليلية
بقلمي الأدبية والمفكرة الدكتورة جعدوني حكيمة.

ظلّ موقف الأعراب من دين الله بين الشك واليقين، وبين القول والفعل. فقد نطقوا بالشهادة ألسنةً، لكن القلوب ظلّت قاحلة، لم ترتوِ من ماء الإيمان، فجاء التنزيل الحكيم كاشفًا لما استتر، قالت الأعراب آمَنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.

فكان إسلامهم جدارًا من لفظٍ، لا أساس له في قرار النفس. وما إن فاضت روح نبيهم إلى الرفيق الأعلى، حتى ظهرت الحقائق، وتعرى المستور، وإذا بقبائلهم تنقلب على أعقابها، فترتدّ عن الدين، كأنما كانت الطاعة لهم أثقالًا، لا هدايةً ونورًا.

لم يدخلوا الإسلام حبًّا في الحق، وإنما عصبية للقبيلة، وفخرا بأنّ الوحي نزل في حيّ من أحيائهم. تحدّثوا بكبرياء ” العزة لنا ” فجاءهم الردّ الإلهي قاطعًا لغلوائهم، ولله العزّة جميعًا، فالعزّة ليست نسبًا أو ميراثًا قبليًا، بل هي لمن أطاع الله ورسوله.

ثم كان الامتحان الأكبر في الزكاة، ركنا به تطهّر النفوس، ويقوّم الإسلام، وتجبر كسور الفقراء واليتامى والمساكين. لكن الأعراب كرهوا أن تفيض أيديهم بالإنفاق، وأحبّوا أن يبقى المال حبيس خزائنهم. آمنوا إذا خفّف الدين، وكفروا إذا أثقل، فاستحقّوا الوعيد القرآني؛ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.

لقد أحبّوا الإسلام إذا رفع شأنهم، وكرهوا الإسلام إذا أخذ من أرزاقهم. جعلوه راية للتكاثر، دون أن يكون ميثاقًا للتكليف. كانوا كمن لبس ثوبا فضفاضا، يختال به بين الناس، غير أنّ جسده عار من الداخل.

وهنا، تبرز المفارقة فبينما ضنّ الأعراب بزكاتهم، وهي حفنة لن تقيم مجتمعهم على ساقيه، في حين استطاعت إسرائيل الحديثة أن تقيم كيانها كله على “زكاة اليهود”، دعما ماليا، وسلاحا متدفقا، واقتصادا قائما على ما يغدق عليها من شرق الأرض وغربها. فشتّان بين من بخل بحق الله وهو جار بيت المقدس، ومن استمدّ عزوته من موائد الآخرين.

الزكاة وحروب الردّة، هي انكشاف السرائر، كانت الزكاة إلى بيت مال المسلمين منذ فجر الإسلام ركنا مكينا، تطهّر النفوس، وتقيم العدل، وتجيش الجيوش وترسو عليها أركان الدولة. مال لا يؤخذ قهرا، وإنما هي ميثاق يربط العباد ببعضهم وبربّهم، ويجعل المال طوعا في سبيل الجماعة. فلمّا ارتحل محمد الرسول، امتنع الأعراب عن أدائها، بخلا ونكاية أرادوا بها أن يهدّوا أحد أعمدة الدولة الإسلامية الوليدة. وكيف يدّعي المرء حبّ الإسلام وهو يبخل بجزء يسير، خمس من ماله ليقيم به بنيان الأمة؟!

لقد دخل الإسلام على الأعراب، فإذا بالأسواق تُفتح لهم، والقوافل تجري إليهم صيفا وشتاء، من اليمن وفارس والشام والهند، فتزداد مكاسبهم ويعظم ربحهم. فتحوّل الدين في نظرهم إلى وسيلة تجارة وليس رسالة تكليف. حتى شعائر الوحي حوّلوها إلى متاع فباعوا ماء زمزم كسلعة، وجعلوا من كل غار أو حجر أو شجرة جلس تحتها النبي ﷺ مزارا يدرّ عليهم الأموال، حتى الآيات القرآنية لم تسلم من استغلالهم الخبيث؛ فقد أخذوا بعضها والأحاديث وجعلوها مادة للربح والتجارة وزعموا أنه علاج ورقية شرعية،
ورفعوا أنسابهم القرشية بين القبائل. كأن الإسلام عندهم راية للفخر لا عهدا للإيمان. ولسان حالهم يقول “نحن قوم النبي محمد”، كما يتفاخر بعض الناس اليوم بانتسابهم إلى دولة عظمى، فيعظّمون خارجها وهم في أوطانهم بلا شأن يذكر.

وما إن غاب الرسول عن دنيا الناس، حتى انكشف الغطاء، وارتدّت قبائل بأكملها، فإذا الإسلام الذي أعلنوه لم يكن إلا ستارا يخفي الكفر الكامن. فجاءت حروب الردّة امتحانا فارقا، فبان أن إيمان أكثر الأعراب لم يكن سوى مسايرة للظرف السياسي في حياة النبي.

وكانت مشاركتهم في الجهاد شاهدا على ذلك؛ فما انظموا إلى الصفوف إلا وهم قلة متناثرة، وإذا نزل البلاء تنصّلوا بحجج واهية، قائلين إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا. فأظهر القرآن زيف أعذارهم، وكشف نيّاتهم المضمرة.

أما اليهود، فكان موقفهم على خلاف ذلك؛ فقد كفروا جهارا، وأعلنوا عداوتهم صراحة، وإن علم بعض علمائهم بنبوءة النبي ﷺ وصدقه إعتزلوه وجحدوا حسدا وبغيا أن يخرج النبي من غيرهم. فكان الأعراب يظهرون الإيمان بالإسلام ويخفون الكفر، واليهود يظهرون الكفر ويخفون المعرفة بالحق. فشتّان بين نفاق مداهن، وعداء معلن.

وما إن فجعت الأمة برحيل رسولها، حتى رفع الأعراب السيوف على الصحابة، وقتلوا حفظة القرآن، واستنزفوا قوى الدولة، فانشغلت عن الفتوح بقتال أهل الردّة. وهبّ سيف الله خالد بن الوليد ليخمد الفتنة، فبدأ بقتال بني أسد الأقرب إلى مكة، ليقطع رأس التمرد، ويعيد للدولة هيبتها. لكن نار الردّة سرعان ما انتشرت بين قبائل شتى، إذ كان إسلامهم قشرة بلا لبّ، وظلّهم بلا جذور.

بل إن بعض المؤرخين ذهب إلى أن نسل الأعراب امتدادا لنسل اليهود الذين سكنوا الحجاز قرونا، فحملوا عنهم خصال المكابرة والمكر والتمرّد على الوحي، وقتل المرسلين.

الحقيقة تتجلّى في طبيعة التغيير؛ فحين يدخل شخص إلى حياتك، فإن لم تلحظ من حوله فارقا جوهريا في سلوكه، دلّ ذلك على أنّ علاقتك به كانت عابرة، وأنه لم يؤمن حقا بأفكارك الصحيحة ولا بما تحمله من مبادئ مغايرة لما اعتاد عليه من قبل.

والدليل الساطع على نفاقهم أنّهم لم يغيّروا من أخلاقهم شيئا؛ فما كانوا عليه في الجاهلية من عصبية وفخر وجفاء ظلّوا عليه بعد الإسلام، لا يتركونه ولا يزحزحهم عنه قرآن ولا سنّة. كان صمتهم بين يدي النبي صمت المنافقين، حتى جاء الامتحان بوفاته، فانكشفت السرائر، وظهر ما في القلوب.

وهو أن الشعائر عندهم كانت ولا تزال ظاهرية بلا باطن، فهل التزم الأعراب بما جاء به الرسول محمد؟
لقد نهى عن الزنا وشرب الخمر والسرقة وظلم الناس وقتل البريء، وأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله. فهل انتهوا عن الزنا وشرب الخمر؟ وهل كفّوا عن أكل أموال اليتامى والميراث؟ أم بقوا على ما كانوا عليه في جاهليتهم، يبدّلون الأسماء ويبقون الأفعال؟

لقد كانوا يحجّون إلى الكعبة، ولكن لأي شيء؟ أكان حبًّا لله وتقربا إليه، أم طلبا لمغفرة سريعة، كما قالوا في عبارتهم “حتى تغسل الذنوب”؟! فجعلوا البيت الحرام مغسلةً للوساخة، يلطخونه بذنوبهم صباحًا، ويظنون أن الطواف حوله يمسح عنهم السوء مساء، كما يفعل اليهود في طقس التكفير حين يطوفون بحيوان، يزعمون أنّ خطاياهم تنتقل إليه.

وكذلك كان صيامهم؛ يخشون أن يقال عنهم “لا يصومون”، فيمسكون عن الطعام نهارا بالنوم الطويل، فإذا حانت صلاة المغرب امتلأت الموائد بألوان الأطعمة، وكأنهم لم يروا الأكل من قبل. ثم إذا أقبل الليل عادوا إلى لهوهم؛ رقص وزنا وخمر و مخدر؛ كل الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فأي صيام هذا؟ أ هو إمساك عن الطعام، أم إمساك عن هوى النفس والمعصية؟

وأما الصلاة، فقد تحولت عند كثير منهم إلى حركات متقطعة، يؤدونها أمام الناس رياء، لا قياما بحقها. ولو كانت الصلاة عامرة في قلوبهم، لما امتلأت السجون بالقتلة والمجرمين السارقين، ولا تفشى الظلم والقهر في أسواقهم وديارهم. فأين العدل الذي يقيمون به الحق؟ وأين الرجال والنساء الذين يحفظون الحرمات؟

ثم ننظر في أحوالهم، فإذا الفساد يخرج من داخل المجتمع نفسه، ملاه صاخبة، حفلات ماجنة، كرة القدم صارت دينا ينفق فيه المال وتقدّس فيه الأندية أكثر مما تقدّس بيوت الله. فأي إسلام هذا الذي يكتفي بالعبادات الظاهرة، ويهدم الجوهر الذي جاء به الكتاب والرسول محمد ؟

لقد نبذوا الكتاب وراء ظهورهم، وأكلوا مال اليتيم، وشهدوا بالزور، وكذبوا في المواقف المصيرية. بل لم ينقطعوا عن الفواحش التي جاء الإسلام ليطهر الأرض منها، حتى فاحشة زنى المحارم وقوم لوط التي وجدت سبيلها بينهم، خفية تارة وجهارا أخرى.

فكان الفرق شاسعا بين وصايا الرسول ﷺ وبين واقعهم؛ فما أن غاب عنهم حتى ظهر أنهم لم يحملوا من الدين إلا اسمه على ألسنتهم، أما الإيمان به وتصدقيه فظل بعيدا عن قلوبهم وسلوكهم.

السيف على رقاب الإخوة، من حروب الردّة إلى انقسام الأمة، ففي حياة النبي كان الأعراب يتوضؤون بين يديه، ويقيمون الصلاة بظاهرهم، ويشهدون الجمع والجماعات، ومع ذلك حذّرهم قائلا “إن فيكم منافقين”. ثم أوصى أمّته عند رحيله، لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض.

لكن ما إن غاب عنهم حتى اشتعل فتيل النار، فإذا الفتنة الكبرى تطلّ برأسها في حروب الردّة، فتسيل دماء المسلمين أنهارا، ويقتل من الصحابة الأخيار من ملأ بهم النبي الدنيا. فكيف يعقل أن أمة لم تجفّ دموعها على فراق نبيّها، ترفع السيوف على أبنائه وذريّته؟ وكيف يجرؤ مسلم أن يقاتل أخاه، وقد قال المصطفى ﷺ “سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر”، وقال “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده”؟

لكن الأعراب لم يسلم الناس لا من ألسنتهم ولا من أيديهم؛ كذبوا، نافقوا، ظلموا، وطفّفوا في الميزان. لقد كان إسلامهم رهبة من دعاء النبي ﷺ، فإذا ارتحل عن الدنيا، زال ما في قلوبهم من رهبة، فعادوا إلى جاهليتهم الأولى. وعلى الضدّ من ذلك، كان بعض النصارى والفرس وأهل الكتاب أقرب إلى إدراك حقيقة الرسالة؛ إذ قال الله تعالى، ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارىٰ، ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانا وأنّهم لا يستكبرون.

ولما بلغت الدعوة أرض الحبشة، كان ذلك شاهدا على عالمية الإسلام، وأنه لم يكن حكرا على الأعراب. بل إن أقواما من الفرس وغيرهم أحسّوا بصدق الرسالة في قلوبهم، لكنهم نفروا من كبرياء الأعراب وتفاخرهم بالأنساب، فأنفوا أن يكونوا تحت سلطانهم. وهكذا، بدل أن يكون الأعراب جسرا للهداية، صاروا في كثير من المواطن سدّا يصدّ الناس عنها.

وكان الموقف الأعظم يوم قال الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه كلمته الخالدة “والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة”. فبيّن أن الامتناع عن الزكاة ليس خلافا ماليا، وإنما ارتدادا صريحا، وخروجا على تعاليم الإسلام الأساسية. فالمعركة إذن لم تكن معركة مال، بل معركة إيمان وصيانة لوحدة الأمة. وهكذا أثبت التاريخ أنّ الأعراب كانوا يخشون لسان الرسول في حياته، فلما غاب، عاودوا خطايا الأمم البائدة، يكررون مكر من سبقهم.

لقد أوصى الرسول ﷺ أمّته أن تكون كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضا. غير أنّ الواقع اليوم يشهد على عكس ذلك؛ أمة مزّقتها الحدود إلى أكثر من اثنتين وخمسين دولة، تتناحر ولا تتناصر، فإذا اعتدي على إحداها لم يقف معها الآخرون؛ كما حدث في العراق وليبيا وسوريا وغيرها من الدول. فأين وصية النبي إذن؟ وأي وحدة هذه التي تتلاشى بسقوط الأخوّة وانطفاء الإخلاص؟

قديما لمّا ينادى في الناس انفروا في سبيل الله، ما كان يخرج من رجال جزيرة العرب إلا قليل، مع أنّهم كانوا جموعا كثيرة، فآثر أكثرهم الدعة والقعود، وتدثّروا برداء النفاق.
ثم أظلّتهم الفتنة الكبرى بين عليٍّ رضي الله عنه الخليفة ومعاويةَ بن أبي سفيان، فانكشفت سرائر القوم، فإذا أنصار عليّ يتخلّون عنه ساعة البلاء، ولم يبق معه إلا عصبة صابرة، بينما احتشد معاوية بجيوش جرّارة، حتى صار بأس الأمة بينها، والروم والفرس يرقبون المشهد: عجبا كيف صارت أمة محمد تضرب رقاب بعضها ببعض، وقد كان الأولى أن توجّه السيوف إلى أعدائها؟

وفي تلك الفتنة قتل عمار بن ياسر، وهو مع الحق، فكان دمه شاهدا على صدق نبوءة الرسول ﷺ لما قال “تقتلك الفئة الباغية”. ولبئس ما صنعت سيوف رفعت لتنصر الدين فإذا بها تغرس في صدور المؤمنين.

ووقف الصدّيق يوم ارتدّت القبائل موقفا لا تلين فيه قناة، فأبى أن تفرّق الصلاة عن الزكاة، وجعلها رباطا يشدّ الأمة شدّ الوثاق، إذ بالصلاة حياة الروح، وبالزكاة حياة الجماعة، فمن فرّق بينهما فقد خان الأمانة ونقض العهد. ولكنّ الأعراب قالوا الصلاة لأنفسنا، والزكاة لغيرنا، فأظهروا أنانية ممقوتة، وأراد كل امرئ أن يحبس ماله عن يد أخيه، فإن أعطى، أعطى بمنة أو لغرض يبتغيه يوما.

وحتى في ميادين الفتوحات، ما كان أكثرهم يبتغي وجه الله أو رفع كلمة الحق، بل ركبوا الخيل طمعا في الغنائم، واندفعوا إلى القتال شهوة في الأموال والنساء والذراري، فصار الجهاد تجارة، لا عبادة، وصار الدم عندهم سلّما إلى الدنيا.

وهذا الذي نراه اليوم، صورة أخرى من الردة؛ قوم يرفعون رايات على غير هدى، ويتّخذون من البشر قادة يرفعونهم لمقامات الأنبياء، وقد قال محمد ﷺ قولا فاصلا “لا نبي بعدي”. وإذا دعوته إلى نصرة المستضعفين في بيت المقدس، أجابك ببرود وما لي في ذلك من مصلحة؟ وأيّ نفع يعود عليّ؟ كأنما دين الله عندهم سلعة، إن أعطت نفعا اتّبعوه، وإن حرموا منه أعرضوا.

لقد صار حالهم كحال من يبدّل العهد كلما لاحت له شهوة، لا يعرف للوفاء حرمة، ولا للعهد وزنا.
فآمن بعضهم بلسانه، وكفر بعمله، حتى صار بأسهم بينهم شديدا، يتقاتلون على حدود رسمها العدو، وينحرون بعضهم على فتات الدنيا، والعدو من ورائهم يضحك ملء شدقيه، إذ يرى القوم قد فرّطوا في دينهم، وتناحروا على دنياهم.

فيا ويحهم! أآمنوا حقا بمحمد وربّ محمد؟ أم رفعوا لواء الإسلام وهمّهم كما كان همّ أسلافهم مال يجمعونه، وشهوة يقضونها، وشعار يرفعونه بغير عمل ولا يقين؟

أفلا تنظرون إلى حال اليهود؟ ما سمعتم عن يهودي سفك دم يهودي مثله، ولو في أشدّ ساعات تاريخهم ظلمة، أمّا الأعراب فقد رفعوا سيوفهم بعضهم على بعض منذ اللحظة التي وجب فيها الجهاد.

وما اكتفوا إلا بصلوات جوفاء، لا إخلاص فيها ولا خشوع، كمن يتمثّل حال إبليس حين دعا ربّه لينجو من السجن ويرفع إلى السماء، فاستجاب الله له لحكمة، فإذا هو يورّث أبناءه الكبر جيلا بعد جيل، فلا يضيعون صفة واحدة من صفاته.

وإن كانوا قد خافوا أن يعودوا لعبادة الأصنام صراحة، فقد عبدوا أصناما في ثياب أخرى؛ عبدوا الشيطان مباشرة و الشهوات والذهب والفضة، وطرقوا أبواب السحرة والكهنة، وعلّقوا التمائم يزعمون فيها الشفاء، ليجمعوا الأرباح في تجارتهم ويعتلوا المناصب، وزاروا القبور وذبحوا لها القرابين، فمارسوا الوثنية سرّا وجهارا، بعضها ظاهر، وبعضها خفيّ. وهذا عين ما يفعله الشيطان حين يعبد الأصنام، فهم ساروا على نهجه، لا فرق بينهم وبينه.كما قال نبيكم ﷺ “لتعودنّ أمتي إلى عبادة الأصنام”.

أما جاهليتهم الأولى، فقد عرفتموها كانوا يزنون بالمحرّمات، ببناتهم وأخواتهم وعمّاتهم وزوجات آبائهم، ويجمعون بين الأختين، يمارسون الدجل ثم يزعمون أنهم مسلمون. والمسلم الحق لا يزني بمحارمه، ولا يتزوج بزوجة أبيه،
لكن الأعراب ما لبثوا أن عادوا إلى تلك الفواحش وما كانوا يفعلونه في الجاهلية، بعد إرتقاء نبيهم، كما لو أن الله لا وجود له.فكانوا يأكلون الميراث أكلا، ويرتشون في الأحكام، ويسحرون الناس ثم يزعمون أنهم على الحق. فجاء الإسلام فطهّرهم بنور القرآن فقال، حرِمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم…، وحرِمت عليكم الميتة والدّم…، فما لبثوا بعد موت نبيهم أن عادوا إلى رجسهم الأول، كأن التحريم لم يتلى، وكأن الوحي لم ينزل قط.

وفي أسواقهم، حيث يفترض أن يسود القسط، علا صوت الطمع والجشع، واستبدّ بهم قوله، ألهاكم التَكاثر. جعلوه شرفا يفاخرون به، وقالوا “إنما نتكاثر لأن محمّدا سيباهي بنا الأمم.” لكن تكاثرهم كان تكاثر الجاهلية فارغين؛ القويّ يأكل الضعيف أكلا، يستعبده ويفنيه.

فغزت أعدادهم الآفاق وزحفوا إلى الصين وروسيا وأوروبا وأمريكا، ليس لنصرة الحق، وإنما فرارا من ضيق الحال، وطلبا للمال والجاه. وقد صدق فيهم قول النبي ﷺ “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”. قيل: أو من قلّة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل… ولينزعنّ الله المهابة من صدور عدوّكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت.

فهل هذه أمة محمد؟ الأم تفرّق بين أبنائها، والأخ يبيع أخاه في سوق المصالح، والجار يخذل جاره، وفلسطين تنحر صباح مساء، فلا تسمع لهم ركزا!
دماء المسلمين تسيل أنهارا، وهم في لهوهم يتفاخرون، وفي أموالهم يتنافسون، وفي دنياهم يتكاثرون. فأين أخوّة الدين؟ وأين رباط الإيمان الذي سُفكت دونه دماء الصحابة وسالت من أجله ميادين الفتح؟

فما كان جزاؤهم إلا أن أورثهم الله نفاقا في ذريتهم، جيلًا بعد جيل، عقوبة لما جنت قلوبهم وما صنعت أيديهم.. والّذين لا يجدون إلّا جهدهم فيسخرون منهم سخر اللّه منهم ولهم عذاب أَليم.

ولقد علم اليهود من كتبهم أن الله باعث رسولا من نسل إبراهيم الخليل من ولده إسماعيل، فجعلوا يتجسّسون على مواطن النبوة ويترقبون مطلعها ليقتلوه، وقد كان لهم في التاريخ سوابق في الغدر بالأنبياء؛ فانظروا في قصة يوسف عليه السلام كيف حقد إخوته عليه، إذ كان في أمّه صفاء النبوة، فغاروا من نقاء لم يكن فيهم، فكادوا له، وأضمروا الشرّ لأخيه بنيامين من بعده.

فانقسم نسل يعقوب قسمين ذرية يوسف وبنيامين، وهما الصفاء والنقاء، وذرية بقية الإخوة، وقد غلب عليهم الحسد والعداء. فلما علموا أنّ النبوة مضت في ذرية إسحاق ثم إسماعيل، استشاطوا وأضمروا الحقد، فصارت قلوبهم كقدور تغلي بالغيظ. فاستهدفوا بنيامين وذريته، ثم توجّهوا إلى عمّهم إسماعيل وذريته، حتى خرج من نسله خاتم الأنبياء محمد ﷺ، فكان حقدهم عليه امتدادا لحقدهم الأول.

ومن نسل يهوذا خرج من سعى لقتل المسيح الحقّ عيسى ابن مريم عليه السلام، وهم الذين قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل، فبما نقضهم مّيثاقهم وكفرهم بِآيات اللّه وقتلهم الأنبياء بغير حقّ…. ثم ارتحل بعضهم إلى يثرب، وقد علموا من كتبهم أنّ هجرة النبي البشير إليها، كما فعل آباءه من الأنبياء، فجاؤوا إليها مكرا وتربصا، يخططون لإغتياله.

وما ذلك إلا أثر الدماء التي جرت في عروقهم؛ دم قابيل أول من سنّ القتل، ونجاسة النسل المختلط من زواج يعقوب بامرأة من اليهود، فخرج من بعض ذريته أصل مدنّس، يقابله صفاء يوسف وأخيه. فكان قتلة الأنبياء هم أنفسهم ورثة الدم الفاسد، يحملون الحقد على النبوة جيلا بعد جيل.

أما نسل إسماعيل، فكانوا عربا أقحاحا، قليلوا العدد، لكنهم ورثوا صفاء الإيمان وبذور النبوة. فلما امتزجت دماؤهم بغيرهم من اليهود والأعاجم، اختلط الصفاء بالعكر، فخرجت ذرية متباينة منهم المؤمن الصادق نصير الرسول، ومنهم الكافر الحاسد رافع راية العداء في وجه ابن عمّه. فكان في بني هاشم من شدّ أزر محمد ﷺ ودافع عنه، وكان فيهم من رماه بالعداوة، وذلك أثر امتزاج الدماء، فاختلط النور بالظلام، وخرج من الأصل الواحد طبعان متناقضان.

الأعراب قوم شدّتهم البادية وصلابتهم في القسوة جعلت قلوبهم كالحجارة، بل أشد قسوة؛ لأن الحجارة قد تتفجّر منها الأنهار أو تسقط من خشية الله، أما قلوبهم فلا يرشح منها إلا جفاء ويبس وجمود. ولأنهم عاشوا في فضاء جاف لا زرع فيه ولا ماء، انعكس ذلك على نفوسهم، فلا رقّة عندهم ولا لين، بل غلظة وفضاضة، فإذا هم أشدّ كفرا ونفاقا، فالأعراب لا يربّوا أولادهم في مجالس العلم، ولا يجلسوهم تحت ظلال الوحي، وإنما عاشوا في شعابٍ قاحلة، لا يسمعون من الدين إلا صدى بعيدا، لا ذوق فيهم ولا إحساس. في ظاهرهم إسلام، وفي باطنهم جهل بالحدود، لا يفرّقون بين الطاعة والمعصية إلا بقدر ما تفرضه عادات القبيلة وأعراف الآباء

إنهم يجهلون الحدود؛ وحدود الله ليست مجرد خطوط فاصلة بين الحلال والحرام، بل هي سياج روحي، وعهد إلهي، وميزان دقيق يضبط حركة الإنسان بين السماء والأرض. والجهل بهذه الحدود يعني أن يعيش المرء بلا ضابط،
ولو تأملت فلسفة النفاق عندهم لرأيت أنه تجاوز الكذبٍ في القول أو ازدواجية في الموقف، وإنما هو كيان متجذّر في أعماق النفس، فهم يتزيّنون بلسانهم بما لا تفعله قلوبهم، ويرفعون راية الجهاد ما دامت تحقق لهم عصبية أو غنيمة، فإذا جدّ الجدّ تركوا الدين وراءهم ظهريا. إنهم يشبهون إبليس في سجوده الطويل قبل المعصية؛ كان في الظاهر عابدا، وفي الباطن كافرا متكبّرا. وهكذا الأعراب، يظهرون الطاعة، ويخفون العصيان، فورثوا صفات الشيطان كما تورث الدماء من الآباء للأبناء.

والأدهى أنهم حين جهلوا حدود الله، لم يجهلوها عن قصور في الذكاء، بل عن غلظة في القلب؛ لأن القلب إذا عميت بصيرته، صار العلم عنده ثقلا لا نورا. لهذا قال المولى عزّ وجلّ، أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله، أي أنهم أقرب إلى الجهل وأبعد عن الفقه، حتى لو قرؤوا القرآن وسمعوا الحديث.

وهنا يظهر الفارق بين “المؤمن” و”المنافق” فيهم،

فالمؤمن يتعلّم الحدود، فيجعلها ميزانا يحكم به على نفسه قبل غيره، فينقاد لله خاشعا.

أما المنافق فيتخذ من الدين شعارا بلا مضمون، وحدوده عنده حدود مصلحة، يلتزم بها ما دام فيها منفعة، ويهجرها إذا ضيّقت عليه شهوة أو مالا حتى صارت دماء المسلمين أرخص عندهم من بعير ضالّ أو ناقة مغتصبة.

فالأعراب صورة متكررة من التاريخ الإنساني؛ هم مرآة لإبليس في تكبّره، ومرآة لقابيل في بغيه، ومرآة لكل قلبٍ غلظ حتى صار الدين عنده صدى لا حياة فيه.

وهكذا نفهم أنهم يجمعون بين جفاء الجهل وظلمة القلب. لأنهم بعيدون عن الله، أقرب إلى العصبية منهم إلى الرحمة، وأقرب إلى الشهوات منهم إلى العبودية.
الأعراب، لم يدخلوا في دين الله إلا بالجسد واللسان فقط، لا بأرواحهم وقلوبهم وعقولهم، ولم يجعلوا حدود الله نورا يسيروا به، وإنما أسوارا يتهربون منها وعليه فهم لم يسلموا قط. 

مقالات ذات صلة