الإنصاف.. صائد القلوب النافرة.
بقلم/الدكتور عادل المراغي.
لقد خلق الله الخلق وليس بأحد معصوماً منهم إلا الأنبياء وما من أحد
إلا له حسنات وله سيئات،له إيجابيات كما أن له سلبيات، والكامل من
بني البشر من غلبت حسناته علي سيئاته.
وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها
كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ
والإنصاف صار عملة نادرة بين الناس،فقلما نجد شخصاً أبغض شخصاً
أو خالفه في الرأي نظر في حسناته ،ولقدأرشدنا النبي صلى الله عليه
وسلم إلي هذه الخلق في إمساك الزوجة إن كرهها الزوج
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: لا يَفرَكْ مؤمن
مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها خلقا أخر )رواه مسلم.
ومعني يفرك أي يبغض ،وهذا غاية الإنصاف فالكمال لله وحده
قال كثير عزة
ومن لا يغمّض عينهُ عن صديقهِ وعنْ بعضِ ما فيه يَمتْ وهوَ عاتِبُ
ومن يتتبّع جاهداً كلّ عثرَة يجدْها
ولا يسلم له الدّهرَ صاحبُ
و الإنصاف هو العدل في المعاملة والنظر إلى الإيجابيات وإلى نصف
الكوب المملوءة عند الشخص وأن يحب للشخص كما يحب لنفسه.
والإنصاف والعدل توءمان بهما قامت السموات والأرض،وعلى أساسهما
قامت الحضارات وازدهر العمران وارتفع البنيان، ومن معاني الإنصاف
أن تؤدي حقوق الناس وألا تطالبهم بما ليس لك وألا تحملهم فوق
طاقتهم وأن تعاملهم بما تحب أن يعاملوك به،وأن تقدم حسن الظن بهم
،وأن تلتمس لهم الأعذار.
ومن أعجب الناس من يلتمس لنفسه العذر في كل شيء ولا يجد لغيره
العذر في أي شيء.
فأعقل الناس أعذرهم للناس.
ولقد أنصف القرآن الكريم يهودياً علي مسلم سرق درعاً فإتهم اليهودي
وشن القرآن الكريم غارة هوجاء في تسع آيات في سورة النساء علي
هذه المسلم المنافق ،قال تعالي:(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا )
فالإسلام ما جاء ليتستر على انحرافات أتباعه أو يتسامح معهم في
مخالفاتهم وظلمهم لغيرهم،وهذا درس عظيم في الإنصاف مع
المخالفين في العقيدة أو المذهب أو الرأي .
ومن مظاهر إنصاف القرآن الكريم مع اليهود أنه أثني على طائفة منهم
ومدحهم مدحا بلغ ذروة شاهقة من الرضا والاحترام، قال تعالي: (وَمِن
قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ )سورة الأعراف
وقال جل شأنه (ليسوا سواء) سورة آل عمران.
والقرآن الكريم أعطي كل ذي حق حقه وكل ذي باطل ما يستحقه
ولما ألف علماؤنا في علم الجرح والتعديل أقاموا هذا العلم علي ميزان
العدل وكفة الإنصاف ولم يكن الغرض من ذلك التشفي
والانتقام،والانتصار للنفس بل قصدوا من ذلك إقامة عمود الدين وحفظ
بيضته وكان غرضهم القيل لا القائل فهم يختلفون مع القول لا مع
القائل،وبنبوا هذا العلم علي قاعدة التثبت والتبين كما قال الحسن
البصري رحمه الله:- (المؤمن وقاف حتي يتبين)
كما أقاموا هذا العلم على مبدأ حمل الكلام على أحسن الوجوه
فالكلام حمال أوجه
يقول ابن الرومي :-
في زخرف القول تزيين لباطله
والحق قد يعتريه سوء تعبير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه
وإن ذممت تقل قيء الزنابير
ومن الإنصاف الذي يزرع الود في القلوب ويسوق الحب إلى الأرض
الجرز ألا ننشر سيئات المخالف وندفن حسناته ،فبعض الناس كالذباب لا
يقع إلا علي الجروح والقروح
وفيهم يقول القائل:
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا
مني ومايسمعوا من صالح دفنوا
يقول ابن تيمية :
(إن بعض الناس لا تراه إلا منتقداً دائماً ينسى الحسنات ولا يذكر إلا
السيئات،فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح
والأذى،وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج)
ومن أروع صور الإنصاف من
النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنصف حاطب بن أبي بلتعه لما خان
الله ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه (فقال عمر دعني يا رسول الله
أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله
اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عز
وجل( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)
وخاطبه الله تعالي بخطاب المؤمنين لأن سيئاته ذابت في بحر حسناته
وهذا غاية الإنصاف.
ومن الإنصاف أن ألا ننقب في نوايا الناس وألا نفتش في صدروهم وألا
تنبش فيما خفي من ظاهر قولهم وألا نحكم علي الناس بظواهرهم ،دع
الخلق للخالق فإلي الله إيابهم وعلي الله حسابهم
ولقد انتشر الإسلام في جزر الملايو وجنوب شرقي آسيا بسبب
الإنصاف والعدل الذي أقامه الصوفية والتجار عملا بقول النبي صلى
الله عليه وسلم (ألا من ظلم معاهَدَاً، أو انتقصه حقه، أو كلفه فوق
طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم
القيامة) رواه أبو داود
ومن عجائب صور الإنصاف ما ذكر عن عمرو بن العاص رضي الله عنه
في شأن الروم رغم عدائه لهم (إنَّ فيهم لَخِصالًا أرْبَعًا: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ
النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ
وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن
ظُلْمِ المُلُوكِ.)رواه مسلم
فلم يمنعه العداء للروم من ذكر حسناتهم وإيجابياتهم وهذا من روائع
الإنصاف في الإسلام.
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة لطلب ثمار
خبير قدموا له رشوة فصاح فيهم ( يا معشرَ اليهودِ أنتم أبغُض الناسِ
إلي قتَلْتُمْ أنبياءَ اللهِ وكذَبْتُم على اللهِ عزَّ وجلَّ وليس يَحْمِلُنِي بُغْضِي
إيَّاكُمْ على أنْ أَحِيفَ عليكم قَدْ خَرَصْتُ عشرينَ أَلْفَ وسقٍ من تمرٍ فإنْ
شِئْتُمْ فلَكُمْ وإنْ أَبَيْتُمْ فَلِي فقالوا بِهَذَا قامَتِ السماواتُ والأرضُ) رواه
أحمد
ومن أروع ما قرات عن الإنصاف لابن تيمية رحمه الله أنه أنصف
الصوفيه واثني علي الجنيد وسماه بسيد الطائفه ولام علي بعضهم ،
وقال- وهو يتحدّث عن الصّوفيّة وما أحدثوه من السّماع والرّقص
وتمزيق الثّياب: «والّذين شهدوا هذا اللّغو متأوّلين من أهل الصّدق
والإخلاص غمرت حسناتهم ما كان لهم من السّيّئات أو الخطأ في مواقع
الاجتهاد، وهذا سبيل كلّ صالحي الأمّة في خطئهم وزلّاتهم»
(الاستقامة 1/ 197)
وينصف جمعا من علماء الصوفية المفترى عليهم، ويصفهم بالاستقامة
فيقول: “فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل
الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف
الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين،
ومثل الشيخ عبد القادر ، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم
من المتأخرين، فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى
على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يعمل
المأمور، ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دل عليه
الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهذا كثير في كلامهم“(جامع الرسائل
لابن تيمية 2/145).
ومن الإنصاف أن نذكر للعالم ماله وما عليه فكل يؤخذ من قوله ويرد
إلا المعصوم صلي الله عليه وسلم ،
ولله در يقولُ الإمامُ الحافظُ ابنُ عبد البرِّ _ رحمه الله _ حيث قال : لا
يسلمُ العالمُ من الخطأ ، فمن أخطأ قليلاً و أصابَ كثيراً فهو العالم ، و
من أصاب قليلاً و أخطأ كثيراً فهو الجاهل . ا,هـ [ جامع بيان العلم ] .
وقال الإمام الذهبي _ رحمه الله _ : و لو أن كلَّ مَن أخطأ في اجتهاده _
مع صحةِ إيمانه ، و تَوَخِّيْهِ لاتباع الحق _ أهدرناه و بدَّعناه ، لقلَّ من
يسلمُ من الأئمة معنا ، رحمَ الله الجميعَ بمنه و كرمه . ا،هـ .
وقد أنصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه حسان ابن ثابت رغم
أنه خاض في عرضها
فعن عروة قال: كانت عائشة – رضي الله عنها – تكره أن يسب حسان
بن ثابت عندها، وتقول: أليس الذي قال:
فإن أبي ووالدتي وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
ومن اقوال العلماء في الإنصاف ماورد عن محمد بن سيرين رحمه الله
أنه قال:(ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوء ما رأيت وتكتم خيره)
وإذا كان الله تعالي نهي أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على عدم
الإنصاف قال تعالي:(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )سورة المائدة
فكيف لا يكون الإنصاف مع الزوجه وهي السكن والمودة؟ وكيف
لايكون مع الأصدقاء والأقرباء والجيران والأصحاب والأشقاء والأرحام
والزملاء والعلماء؟!
والإنصاف هو سفينة النجاة من كل هول في الحياة من تعلق بها نجي
ومن تخلف عنها هلك ،وهو سبب لاستقرار البلاد وحب العباد وأساس
لشيوع المحبة و الأمان بين الغني والفقير والزوج وزوجته والرجل
وأولاده والجار وجاره والمدير ومرؤوسيه والداعية وجمهوره والمدرس
مع تلامذته والعالم مع مستفتيه ،وبه يسود التعايش السلمي بين
أطياف المجتمع المختلفين في العقائد والمذاهب والآراء ويسلم الجميع
من المكائد والمآمرات،وتجف متابع الإرهاب ويعم التعاون بين العلماء
ومؤسسات الدولة والدول الأخري.
وأخيرا أقول الإنصاف أعز من الكبريت الأحمر ولو أنصف الناس لأراحوا
واستراحوا