منوعات

التجاهل والتغافل … مفتاح لقلوب الناس

بقلم/الدكتور عادل المراغي

من المعلوم لدي علماء الإجتماع أن الإنسان مدني بطبعه، يألف ويؤلف، ومع تلك العلاقات التي قد

تكون بعضها هبة من الله ونعمة، والتي

يعد بعضها درسا وابتلاء وأذى، كلا بحسب طبيعته وتربيته، فقد خلق الله الناس من ماءٍ وطين،

بعضهم غلب ماؤه طينَه فصار نهرا،

وبعضهم غلب طينُه ماءَه فصار حجراً، وقد يكون الشخص حينها في حيرة من أمره كيف يتعامل

مع تلك العلاقات، سواء كانت ذات قرابة أم

لا فكان لابد من التجاهل والتغافل

والفرق بين التغافل والتجاهل بسيط ودقيق، وهو أن:

التغافل: رسالة ودّ واحترام.

وأما التجاهل: فهو دلالة إهمال وازدراء.

فالتغافل لغة: تظاهر بالغفلة أو تعمَّدَها.

أما التجاهل: إِظْهَارُهُ عَدَمَ مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ يَعْرِفُهُ.

وكلاهما يعد من وسائل التواصل مع البشر، وهو فن لابد من الإلمام به، فالتغافل: وسيلة لتنبيه

الشخص أنك حريص على دوام الود معه،

وأنه يعنيك أمره،

وقد قيل أن التغافل معناه أن تغض الطرف عن الهفوات، وألا تحصي السيئات، وأن تترفع عن

الصغائر، ولا تُركِّز على اصطياد السلبيات،

فهو فن راق لا يتقنه إلا محترفو السعادة،

قال أبو الطيب المتنبي:-

لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ
لكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابِي
(أَيْ المُتَغَافِل).
أما التجاهل: فهو انتقام راق وصدقة على فقراء الأدب.
فمن كمال الأدب تجاهلك لقليل الأدب،ومن تمام الذوق اعراضك عن عديم الذوق.
وقد قيل: إن التغافل يكون من شخص لشخص محب، أو ذي قرابة، كأن يرتكب خطأ فنتغافل عن
ذلك كأنه لم يفعله.
وأن التجاهل يكون مع من نصادفهم في حياتنا العابرة، ممن أساء وأخطأ، فنتجاهله كأنه لا يعني لنا
هذا الشخص شيئا.
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة في سورة التحريم عندما أسر إلي بعض
ازواجه حديثا قال تعالي:(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ
بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ)
ومعني أعرض عن بعض أي تجاهل ولن يحقق ولم يدقق في كل الأمور رغم علمه بها
ومن صور تجاهل النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كانوا يسبونه وينادونه مذمما، فما كان
منه إلا أنه قال:- «أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ
يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؛ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ». (رواه البخاري)”
ومن صور التجاهل في القرآن الكريم ما أرشدنا إليه في قوله تعالى في سورة الفرقان (وَعِبَادُ
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً)،
والجاهل: هو السفيه الذي لا يزن الكلام، ولا يضع الكلمة في موضعها، ولا يدرك مقاييس الأمور
لا في الخلق ولا في الأدب.
ومنها قوله تعالى في سورة القصص (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
– والتجاهل يكون لمن ساء خلقه من الناس، فعن أَنسٍ قَالَ: “كُنتُ أَمْشِي مَعَ رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غلِيظُ
الحَاشِيةِ، فأَدْركَهُ أَعْرَابيٌّ، فَجَبَذهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدَةً، فَنظرتُ إِلَى صَفْحَةِ عاتِقِ النَّبيِّ صلى الله عليه
وسلم وقَد أَثَّرَتْ بِها حَاشِيةُ الرِّداءِ مِنْ

 

شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي عِندَكَ، فالتَفَتَ إِلَيْه، فضَحِكَ، ثُمَّ أَمر لَهُ
بعَطَاءٍ” (متفقٌ عليه).
ومما يدل علي أن التجاهل والتغافل والتغابي ذكاء اجتماعي وسبب من أسباب التراضي وزرع
الحب في قلوب الناس ما قاله العلماء قديما
وحديثا في شأنه.
قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: (تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل).
و قال الحسن البصري – رحمه الله -: (ما زال التغافل من فعل الكرام).
ويقول ابن الجوزي: (ما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فإنّ الناس مجبولون على
الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلة
وخطيئة تعب وأتعب، والعاقل الذكي من لا يدقّق في كل صغيرة وكبيرة، مع أهله، أحبابه،
وأصحابه، وجيرانه، وزملائه، كي تحلو مجالسته،
وتصفو عشرته).
و قال جبران خليل جبران: (إذا تعلمت التجاهل فقد اجتزت نصف مشاكل الحياة.)
– وقال مالكوم إكس: إذا لم تتقن التجاهل ستخسر الكثير أولهم عافيتك.
– وقال جورج ماكدونالد: (التجاهل وقت الغضب ذكاء، والتجاهل وقت المصاعب إصرار،
والتجاهل وقت النصيحة البناءة غرور، فانتبه متى
تتجاهل.)
والتجاهل فن لا يتقنه إلا العظماء
قال الشاعر:
من كان يرجو أن يسود عشيرة
فعليه بالتقوى ولين الجانب
ويغض طرفا عن إساءة من
أسـاء ويحلم عند جهل الصاحب
وهنالك آيات كثيرة في القرآن الكريم ترشدنا إلي إلي التغاضي والإعراض عن جهل الجاهلين
والدعوة إلي السماحة والعفو والتغافل عن
الأخطاء.
والتغاضي والتغافل لغة لا يفهمها إلا أصحاب الإرادة القوية والنفوس الراقية التي تقدر الشعور
الإنساني ولا تريد أن تخدش حياء الناس أو
تكسر خاطرهم وذلك بالترفع عن الدنايا التي لا تؤثر في الحقوق ولا تقر منكراً ولا تهدم معروفا،
بل هي من سفاسف الأمور.
ولما كانت طبيعة الإنسان قد جبلت علي إرتكاب بعض الأخطاء والزلل( كل ابن آدم خطاء) (وكلنا
ذوو خطأ) فلابد من التغاضي حتي تستقيم
الحياة خاصةً بين الأزواج والأقرباء والجيران، والأصدقاء وزملاء العمل،
وإذا أردت أن يدوم لك الود فلا تحقق ولا تدقق ودع عنك ماذا وكيف وأين ومتي!
لأن التحقيق والتدقيق والتمقيق هادم لجسور الحب بين الناس
قال علي رضي الله عنه:-
وأُغمضُ عيني في أُمورٍ كثيرةٍ
وإني على ترْكِ الغموضِ قديرُ
وما من عمى أُغضِي ولكنْ لربما
تعامى وأَغْضَى المرءُ وهو بصيرُ
وأَسكُتُ عن أشياءَ لو شئتُ قلتُها
وليس علينا في المقالِ أميرُ

فالتجاهل والتغابي والتغافل سبب لدوام العشرة وصفاء الود

وهو دليل علي سمو النفس.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى