لــ شلال عباس عنوز
” مشيتُ وفي منتصف طريق الحياة ، وجدتُ نفسي في غابةٍ مُظلمة ، حينها أدركت أنه قد ضاعت منى معالم الطريق “
دانتي الكوميديا الإلهية
شلال عباس عنوز
مواليد: ١٩٥٠
بكالوريوس قانون، محامي، شاعر وروائي عراقي، له حضور فاعل في المشهد الثقافي العراقي والعربي، ترجمت بعض أعماله إلى اللغة الانكليزية واللغة الكردية واللغة الفرنسية واللغة الايطالية.
1- عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق منذ 1985
2- عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب منذ 1992
3- يكتب الشعر بأنواعه: شعر العمود والتفعيلة وقصيدة النثر، يكتب القصة والرواية، حاز على الكثير من الجوائز التقديرية من وزارة الثقافة والاعلام سابقا وجامعة الكوفة ووزارة الثقافة في العراق عام 2006. واتحاد الأدباء والكتاب في العراق واتحاد الأدباء الدولي.. ومنح درع الجواهري للإبداع من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق. كما حصل على جوائز تقديرية ودروع ابداع من منظمات ثقافية عربية وعالمية ومواقع مرموقة.
نحنُ بِصدد رواية يكتبها قاص و روائى وشاعر مُتميز و متعدد فى إبداعاتهِ المُتنوعة وحاصد على تقديراتٍ ما بين شهادتٍ ودروعٍ فضلاً عن مكانةٌ راقية في مؤسسات حكومية و مدنية ، تجعلُ هذه الرواية جديرة بقراءات ورؤى مُتعددة لعديدٍ من النقادِ في الوطن العربي .
العنوان و الغلاف :
الوكر لغةً : هو الكهفِ أو المغارةِ التي تئوي الفارين من العدالة والمجرمين ، والسلمان منطقةٌ حدودية صحراوية مشهورة بسجن لعتاة المجرمين في العراق ، وهي اشبه بمنفي فهي بعيدةُ عن تحضر الريفِ أو القرية و بالتالي هي منطقة يتضائل قاطنيها ويتميزوا أنهم بدوٌ ولهم قِيّمِ البدو الرُحل وعاداتهم التي تتميز بالسطوة والعنف المقرونِ بالجهلِ ونبذِ الأخرغير البدوى ولا يطرُقها إلا من على شاكلتهم من التجهمِ و الحدةِ وحبِ السطوةِ و التفردِ و الإنغلاق الذاتي ، لذا كان إختيار الأسم مع لوحةِ الغلاف التي في تُمثلُ الكهفِ وفي عمقِها ظلامٌ باللون الأسود الذي يُنبئُ أن لا نهاية لهذا الكهف ِ ولا لظلامهِ ومن أعلاهُ تتساقط بغزارةٍ الدماءِ القانية في حُمراتِها بشكلٍ يُمثل كثرة وكثافة هذه الدماءِ بألوانِها المُتدرجة بدرجاتِ من اللونِ الأحمر وشبحٍ بلا معالم با اللون الذهبي الأصفر وهو لونٍ معروفٍ في حضارة بين النهرين ” العراق ” أنه يُعبرُ عن الرزيلةِ والدعارةِ كما تُسخرهُ ” اشتهار” المُولعة بـا ” ألشهوة ِو الدعارة ” والشهوةِ هنا هي شهوةِ القتلِ و السيطرةِ و الإنتقام الواعي و المُخصص والمُبرمج سلفاً ، إذن هذا الكهفِ بدلالاتهِ المُكثفة مع هذا العنوانُ يُعدُ المسرح الذى تصبُ وتجري إليهِ وتتعدد الأحداثُ الدموية والعنيفة من شخصية بطل الرواية السادي الذي يُمهدُ لهُ الكاتب بدأ بدءاً من العنوان والغلافِ و الأهداء و بداياتِ السطورِ الأولى من صفحاتِ الرواية .
لنقرأ الإهداء :
الإهداء
إلى ضحايا الحرب، رجالا، نساءً وأطفالا
إلى الذين تناثرت أشلاؤهم وأحلامهم معا
إلى المفقودين والأسرى
إلى الذين خسروا أمانيهم وأكلوا أعمارهم
إلى كل الذين اكتووا بناره
إلى الإنسانية المعذبة بسبب حماقات مشعليها
أهديهم روايتي هذه لتكون شاهدة على دموية الحرب وآثارها ودورها الخطير في تعاسة البشرية وشيوع الجريمة في الأرض…
الرواية بطلُها ” نعمان ” شابٌ من اُسرةٍ متوسطة الحالِ لكنها ” سوية ” تربي ونشأ نشاةُ طبيعية عادية حافلة بألوان من الكفاح من الوالدين والأملِ المعقودِ عليهِ من الوالدين و ورث منهما سعةٍ ومكانةٍ يُغبطُ عليها ، الأمر الذى جعل ما يحدثُ لاحقاً في الرواية ، يُخالفُ المتوقعُ لهُ ومنهُ و الذي عمدَ الكاتب منذ البداية أن لا تكون لنشأتهُ تأثيراً مُباشراً على سلوكياتهِ الإجرامية ليُخرجُ بهِ بعيداً عن نظريات لامبروزو و غيره من علماء النفس الخاصة بالجرائم و المجرمين و بنفسِ القدر حتى لا تخضعُ الرواية لتصنيف ” رواية بوليسية” و إنما تتسقُ مع الاٌهداءِ الذى هو من عتباتِ نصِ الرواية .
يتأكد ذلك في منولوجات عديدة لنعمان :
( أين تسير يا نعمان؟ أي طريق مرعب تسلك؟ ما هي النهاية؟ ما جدوى أن تأكل؛ والدم القاني يأكل روحك فهذا الهوس المريب؛ يشرب صحوك ويتفجّر في أعماقك براكين من عذاب لا تهدأ، كل ما فيك يصرخ: كفى لقد تعبت.لماذا اختزلت كل رؤاك في القتل؟ ولماذا يتناسل فيك البغض، فيلد أجيالا من الكراهية؟
لماذا أصبحت أداة لهذا الحقد الجارف، يطوف في بلقعك، يرش الظلام ويطيح بكل فضيلة قد تربّيت عليها؟
كان يتمزّق في أعماقه صارخا: أيها الحقد الأسود البغيض؛ لماذا غزوتني بكل هذا الجبروت؟
يا أيها الناس اقتلوني، دكّوا رأسي بأحذيتكم، لا ترحموني أبداً، فأنا لم أرحم مَن قتلتهم بيديَّ هاتين، فهذه رائحة الدم تضجّ منهما، أنا لا أستحق الحياة فأنا جندي تطوّع في معونة ملك الموت وأدمنت على اقتناص الأرواح، أنا صنيعة الشيطان، لا أغفو إلا على حمرة الدم،اذهبوا معي إلى هناك، في نفق الموت سترون حقيقتي السوداء ووجهي المرعب الآخر ) .
نعمان هذا كان شاباً رقيقاً ذا حسٌ مُرهف يجيدُ كتابة الشعرِ بل يحفظُ بعضاً منه ، كان محبوباً من رفاقِ الدراسة ، أحب وأحبتهُ زميلتهُ ” سناء ” بل سعى لخطبتِها فرُفضَ من والديها وأمام إصرارِها ومحبتِها له تمت الخطبة كانت لهُ علاقاتٍ جيدة مع اصدقاءهِ الذين تحولوا فيما بعد إلي ضحايا لهُ بعد تغيرِهِ بسبب ما اصابهُ من جراء إشتراكهِ في الحربِ العراقية / الإيرانية و ما نتج عنهُ قطع من إستئصال عضوهِ الذكري الأمر الذي دمرهُ نفسياً وسلوكياً وحوَلهُ لمجرمٍ ذا طبيعةٍ سلوكية إجرامية و دموية مُغايرة تماماً للمتوقعِ والمألوفِ فكان إنطواءهِ وعزلتهِ و إبتعاده بنفيّ نفسهِ إلي ” وكر” إلى السلمان حيثُ أعدهُ مكاناً لجرائمهِ وأختار ضحايهُ بل حصرَهم في أقربِ الناسِ إليهِ خطيبتهِ وابن عمهِ واصدقاءهِ المقربين منهُ ، و إمعاناً في كشفِ مبرراتهِ لضحاياهُ يكشف لهم عن سوءتهِ المبتورة قبل أن يشرعَ في جز رقابهم أو قتلهم بقسوةٍ وبرودٍ مع لا مُبالاةٍ بتوسلاتٍ أو رجاءاتٍ مِنهم ، يعقبُ ذلك مشاعرَ ندمٍ لا تطول … بعد أن يواري الجثامين ليخرج من وكره للشروعِ في الإعداد لمجزرةٍ جديدة لا تخالفُ سابقتها من إستدراجٍ و تمويهٍ وخِداعِ ، يتكرر ذلك حتي تفطنُ ” هيام ورحمة ” صديقتيه وزميلتيه و لـ “سناء ” خطيبته ” اللتانِ تشكان فيه بعد إختفاء سناء و إختفاؤه الغير مبرر وعدم سؤاله أوإهتمامه بإختفاء خطيبتهِ ، ودفعا اسرة ” سناء ” لرفع دعوي فيها شكٌ بنعمان ، وتبدأ حلقة البحثِ والتدقيق وقراءة الملابسات والتحريات و إشراك جاسم إبن عمه الذي يعمل بالشرطة وتظل تضيق الحلقة حول ” نعمان ” حتى يُدرك أن امرهُ قد اُكتشف بعد زيارة إبن عمهِ لهُ فيخطط لإحباط محاولة القبض عليه فيفخخ الوكر قبيل حملة القبض عليه ويحدثُ الإنفجار ويصيب قتلاً وإصابةً بعض رجال الشرطة و يختفي هو مولياً إتجاه نحو الصحراء في نهايةٍ مفتوحة أمام القارئ .
لقد تعددت تقنيات الكاتب السردية ما بين القطع والوصل و الإستدعاء لأحداث الرواية و تكثيف المعلومات مع موضوعاتٍ عديدة تخدمُ هذه الأحداثِ منها ما يتعلق بالحرب بين العراق / ايران ومنه ما يتعلق بعلمِ النفس و القوانين الجنائية و توصيف حالة ” نعمان ” نفسهِ فضلاً عن عنصري الزمان والمكانِ اللذان جرت بهما وفيهما الأحداث ( المدينة شوارع و مناطق تجارية ومناطق مشهورة والقضاءات ومصالح حكومية و سينماتٍ وكافتريات مشهورة واغتنياتٍ وبرامج … الخ .. ) واستخدم شخصياتٍهِ جعلها مهمة لتأكيد شهوة القتلِ الخاصة بـحالة ” نعمان ” الإجرامية المُرتبطة بإنعكاسات الحرب في خصوصية لا تتعلق بالمجتمع بوجه عام – ولكن كما اراد الكاتب – ترتكن إلى إبراز تأثيراتٍ لنوعٍ من القسوة التي لا حد لها التي تصلُ إلى التدميرالمُباشرِ للأسوياءِ من البشر فتتغير سلوكياتهم بِمقدارِ مائة وثمانين درجةٍ وهمُ الذين لا ناقةَ لهم في نشوب هذهِ الحروب التي تبدو عبثية المنطقِ والقصدِ عند قراءة التاريخ بعد إنتهائِها .
ايضا كانت لغةِ الكاتب السردية راقية الفاظاً وتعبيراً وبلاغةً حتى أن القارئ لا يشعر بجسامةِ وحدةِ القسوة وهو يمضي عبر احداثٍ داميةٍ خفف من حدتِها سلامة اللغة وشاعريتها و بلاغةِ الوصف والتعبير والسرد ، وقد مزج – الكاتب – إسلوبه السردِيّ – كشاعرٍ – بمقاطعٍ من القصائد .
فنقرأ :
بين الشهقة والاشتياق
أغازل إطلالة الندى
على ضفاف خصر الياسمين
أدمن على مشاكسة أراجيح الضوء
كبندول جنّي الوَلَه
يرقص على نهم ساعة المواعيد
وعلى نسائم عطش اللقاء
أيتها الغافية على سفوح مرايا العشق
تتبتّلين حوريّة في بساتين شغف الانتظار
تُهاتفك نشوة انهمار مطر الهمس
في احتدام مهرجانات قُبل البراءة
وشبق العناق الصوفيّ
أنا الراهب الحالم بزقزقات عنادل المنى
في مواسم شم النسيم
أرتّل في مَحفلك السرّي
قصائد اخضلال الليلك
أشعل فوانيس التوق
على نمارق البوح
كي يزدهر الغناء الملائكي
على شرفات المعنى
دعيني أتصوّف
في محرابك هائما
أذرف ابتهالات نُسكي
على خاصرة الشمس
وأغنّيك فجرا
مترعا بالأمنيات .
كما نقرأ سطوراً سردية نري فيها مُتعة البلاغة الوصفية للمشاعر والمنولوجات السردية يتألق فيها كاتبنا:
( تساقطت قطرات بائسة من دموعه فتسلّلت دافقة على خديه، لترسم نهرين من وجع وحسرة وتشير إلى ذنب لم يغتفر، ثم أطرق بصمته المعهود؛ وراح يقلّب في دفاتر وجعه المزمن، ففي لحظات الصمت يسترجع في ذاكرته كل ماله وما عليه، حيث يدقّ الناقوس فيحرّك سكون مويجات الأفكار، ويزحف بلا رحمة في عري الحقيقة ليمزّق بكارة الروح ويرسم لوحات الألم فيجسّمها صورا مريبة مرعبة تلتهم ذاكرته المنخورة بالمأساة، فكل جدب القبح ينام على صدره الذي أدمن على السواد وغادرته طيور الأمل إلى الأبد، هو وحش تبرأت منه إنسانيته وغادرته المروءة فاغتسل ببصاق إبليس، فهو لم يكن إلا مجنّدا في جيش الشيطان فيأتمر بأمره ويحمل راية الشر ليقاتل الفضيلة، وقد قالوا سلفا “عندما يفلس التاجر يفتّش في دفاتره القديمة” لكنه لم يكن سوى تاجر دم وغدر، فصحائفه المشينة تعجّ بوساخة أعماله وتتراءى له ملوّثة بكل قبح الفساد والرذيلة، ففي كل ركن من هذه اللوحات السوداوية تتمظهر له حقارة عمله صورا مقزّزة تلتهم ملح ذاكرته ) .
اخيرا .. لقد حَملت الرواية مع زخمِ الأحداثِ وقسوتِها و الشخصيات المتنوعة حول الشخصية الرئيسة ” نعمان “كما بناها الكاتب ، حملت دلالاتٍ واضحة بدايةٍ من العنوانِ وكمْ الأحداثِ العنيفة الدموية و مبرراتِها مالا يجد القارئ صعوبةٍ في إدراكها .
ســـيــد جـــمــعــه
ناقد تشكيلي واديب
مصر
تابعنا على