أدب وثقافه

الفُنجانُ الأوَّل| عثمان المصري

وَقَفَ تحتَ الشَّجرة المُتَّفَقِ عليها، لم تتأخّر إنّما هو من أتى باكرًا…

كانَ وقعُ الثّواني في انتظارِها يُشبِهُ في حنينِهِ الخَمسَ دقائقَ الأخيرةِ قبلَ أذانِ المغربِ في شهرِ رَمضان، حَيثُ كُلُّ الصّائمين في غمرَةِ نشوَةِ

الطَّعام وهو يُعانِقُ الأفق مودِّعًا الشّمسَ، تُشَيِّعها أنسامُ المساءِ، غيرَ عابئٍ بهُتافاتِ عائلتِه يَدعونَهُ لِلمائِدة…

وفجأةً يوقِظُهُ الأذان…

أقصدُ وُصولها…

عرفَها فورًا، من حِجابها الأزرقِ ودبّوس الزّينة على شكلِ الوردة الجوريّة، كما أخبرتهُ أنَّها سترتدي، إشرأبَّت عُنُقُهُ لكنّه لَمْ يغادر مكانَهُ، لَمْ

يَكُنْ لديه ذرّة شَكٍّ أنّها هي، “هل ستتعرّف عَلَيّ؟!”، قالها مُحدِّثاً نفسهُ…

رأتهُ هُناكَ مشدوهًا تحتَ الشّجرة، تعرّفت عليه من شالِهِ الأزرقِ والوردةِ الحمراءِ في يَدِهِ، ولكنّها كانت تشعرُ أنَّ قلبهُ قفزَ من عيونِهِ، وها

هو آتٍ لِاستِقبالها، هَمَّت أن تركُضَ ناحِيَتَهُ لِتُعانِقَهُ، طبعاً لتعانق قلبهُ القادِمَ نحوَها بلهفةٍ…

عدّة أشهرٍ منَ التواصل الأدبيّ على صفحاتِ facebook، مرَّت أمام أعيُنهما كشريط سينمائيّ، لم يكن بينهما أيّ رسائل خاصّة على
الإطلاق، ما عدا الأسبوع الماضي، حين ومضت شاشةُ هاتفِها مساءً تُخبرها بوصول رسالة على messenger، استغربت الإسم، فهو لم
يحاول أن يُحادثها من قبل، مع أنَّها تمنَّت ذلك بينها وبين نفسها.
كانت الرِّسالة مهذبة ومقتضبة: “أستاذة…أعتذر لإزعاجك في هذا الوقت، سأكون سعيدًا جدًا لو تكرَّمتِ عليَّ بأن نلتقي، في حديقة المدينة
……. سأكون في انتظاركِ، ولن ألومكِ حتى لو لم تأتِ”.
ردّت على رسالتهِ باقتضاب أيضًا، ومنذ خمسة أيّام انقطع تواصلهم على صفحات facebook.
اقتَرَبتْ حتّى صارَت ضِمن إطار ظلّ الشجرة، وقد خفضت نظرَها فلم تجرؤ أن تنظر في عينيه ووقفت، اقترب منها ثلاث خطوات وأصبح
في مواجهتها، مدّ يده بالوردة الحمراء قائلاً: “جاد”.

 

تردَّدت قليلًا ثم استقبلت الوردة بكلتا يديها وقالت: “تالا”.

 

مَشيا بصمتٍ تامّ، لم يتَصافَحا ولم ينظُرا لبعضهما، ومع ذلك لم يضّل أحدهما عن الآخر أو يشُذ عن مسير صاحبه، كأنَّ هُناك خيطًا خفيًّا
يربطهُما مَعًا.

 

بلغا مقهًى في وسط المدينة، دخَلاه وأزاح لها كرسيًّا حتّى تجلِسَ، شكرته بصوتٍ منخَفِضٍ بالكادِ سمِعَهُ، فابتسم وجلس على الكرسيّ قِبالَتَها،
حضَرَ النّادل وسألهما طَلَبَهُما، فأشار “جاد” له أن يسأل “تالا” أوّلًا، فطلبت فنجان قهوة سادة، فطلب “جاد” مثلها، وانصرف النّادل.

 

ران الصّمت بينهما لدقيقة، فدقيقتين، ثُمَّ قالت: “لم تتكلّم أبداً عن قهوتك في كتاباتك!”.

 

اعلان
“صحيح، قالَ “جاد”، هذا لأنّي لا أشرب القهوة أساسًا”. بدت “تالا” مُستَغرِبَةً، وأرادت أن تتكلَّم فقاطعها وصول النّادل، وضعَ فنجانَي
القهوة ورحل بهدوء، أحسّ “جاد” بِاستِغرابِ “تالا” فاستطرد قائلًا: “القهوة يا سَيِّدَتي فلسفةٌ وحوار بحدِّ ذاتها والحوار لا يقوم إلّا بينَ
طرفين، ولأنَّني لم أكُن قد وجدت الطَّرَفَ الثّاني بعدُ فلم أكن أشرب القهوة…”.
قاطعتهُ “تالا” بجُرأة استغربتها من نفسها: “وبما أنَّها المرّة الأولى، واخترتها سادة فكيف ستستسيغها وتشربها؟!”
– تسألينني كيف؟
– نعم قُل لي كيف؟
قَرّب جاد فنجانه من يد تالا مبتسمًا وقال مُمازِحًا: “بغمستَين من إصبعك…”.

ابتسمتْ “تالا” بِخَفَرٍ و أشاحَتْ بوجهِها ناحيَةَ الشّارع، كان الطّقسُ ربيعيًّا جميلًا، كأنّه نَسّق حواشيه كُرمى لِعَينَيهِما، على الشَّجرة -التي

تخرجُ من حوضٍ دائريٍّ في الرَّصيف وكأنّها يدٌ تخرجُ من تحتِ الأرضِ تتحدّى الموت- حَطَّ عُصفورانِ فوقَ أحدِ غصونها وراحا يغرِّدان

لحنًا حنونًا كأنَّهما هديَّةٌ من الحُبِّ لِ”جاد” و “تالا”…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى