المنتقبــــــة..(الحلقة الأولى).. بقلم د.هبه عبد الغني
دومًا ما تحيا الحقيقة متدثرة برداء مرارتها، يُنظر لها بنظارة
نرجسية زجاجها مخضب بالسراب، سرابٌ ترسمه ليالي بنفسجية
منخنقة بالغيوم…
فها هي السماء الوردية تبكي براءتها بعد أن أعتصر كبد السحاب غيثًا
على جبين الأرض المتشحة بالسواد… هنا انبثقت أشعة الشمس
الذهبية مؤذنة بميلاد فصل الخريف… فصل البين بين… ما بين انهمار
المشاعر وتجمدها، ما بين ديناميكية الحياة وتوقفها… حيث تعرت
الأشجار بهجرة الأوراق عنها، وانتحرت الأمنيات المعلقة بطلع أزهارها،
وأجهض اليأس جنين ثمرها… مصلوبة هي على أغصانها تقدم صكوك
الاعتراف للمارة تحكي ذكريات عذرية المنبت، بعد أن غادرها الربيع
بإكذوبته والصيف بقسوته، ولا يرق لنبض لحائها أحدًا، حتى الطيور
هجرتها لبشاعة أحزانها وانسياب رائحة الخطيئة على بشرتها…
لا أحد يرمقها إلا أدهم فقد اتكأ على جزعها البائس… يحرق أنفاسه
بتبغ سيجارته ليرتسم على صفحة دخانها عيون تلك الجميلة نورا
زميلته بالكلية… لم ولن يتجرأ على الاعتراف بحبه حتى لو فلق الشوق
قلبه… فمن هو؟ ومن هي؟
وما أن حاصرته الأفكار وخنقته أمنيته الموءودة حتى التف بلا وعي
ليلكم جزع الشجرة بقوة قبضته معاتبًا القدر… لماذا أنا؟ لماذا حُرمت
حتى من التمني؟!
انتبه أدهم لانزعاج المارة منه…. فشكر للسيجارة مواساته داهسًا إياها
أسفل حذائه ورحل….
وعلى مشارف الحارة يموج البشر ازدحامًا، يطويهم الفقر طي
نسيان العالم، كلٌ يجري في سباق العمر خلف لقمة العيش…
غارقًا أدهم في ضجره غافلاً حتى عن موضع قدمه، أو قد يكون
حفظت خطواته الطريق الذي يرتاده منذ ما يقرب من أربع سنوات فهو
مغترب، ترك قريته المتواضعة ليكمل دراسته الجامعية في المدينة،
يسكن في غرفة متقوقعة في مسكن قديم داخل حارة هذه هي
إمكانات والده عامل النظافة البسيط… أفاق أدهم وضربة بتهكم على
كتفه من مالكة المسكن تسأله عن إيجار الشهر… زاغ بصره خجلاً وفرك
جبهته بكفيه حائرًا …. ثم اعتذر متعللاً بأن والده لم يرسل له الإيجار
بعد…
لوّت شفتيها مستنكرة وقالت نفس العذر من الشهر السابق!! فلتذهب
وتكد وتعمل كما الرجال ولا تنتظر والدك المسن… أومأ برأسه وابتسم
وصعد يجفف عرق خيبته… أغلق باب غرفته ركلاً بقدمه… أطاح
بحذائه في الهواء… وارتمى على فراشه الذي يتوسط فراغ غرفته على
يمينه مرآة باهتة وأسفلها منضدة رفيعة وكرسي وفي ركن الغرفة
منضدة مربعة صغيرة بالكاد يصلها ضوء المصباح وقد تبعثر عليها
العديد من أوراق… تمدد يتذكر استقباله البارد لوالده منذ شهرين عندما
أتى لزيارته وأبدى كامل اشتياقه لرؤيته وتهرب منه أدهم كذبًا “أنه
بالجامعة” ففاجئه الوالد المسكين الطيب وذهب إلى الكلية يبحث
ويسأل عن أدهم وقلبه ينبض بالحنين متلهفًا للّحظة التي يرتمي فيها
أدهم في حضنه…
ترك أدهم أصدقاء السوء وخرج من وكرهم منزعجًا وأسرع
للجامعة… وقد غشّاه الجحود وألجم العقوق قلبه قبل لسانه وسأل
والده مذعورًا: هل أخبرتهم أنك والدي؟ هل سألوك عن مهنتك؟
……تساقطت فرحة الأب على جبينه وأسفل قدمه ……
….. وحشتني ووحشت أمك يا ولدي……
مغيبٌ كالأصم رد أدهم: لا تخبر أحد أنك والدي الكل هنا يعلم أني
يتيم، سافر بالسلامة وسأحضر لكم قريبًا ولا تنسى في طريقك أن تترك
الإيجار لصاحبة السكن فسأنهي محاضراتي متأخرًا اليوم ..
أخذ يربت على كتف والده ليهم بالرحيل…. غطى وجه الأب صفرة
الموت وارتعشت يداه من صواعق الكلِم التي نزلت كالرعد على
مسمعه… وكأن آدهم طعنه في مقتل… ابتعد الأب بظهره ناظرًا لفلذة
كبده في استنكار ما كل هذه القسوة؟ ما الذي جنيته عليك يا ولدي؟
استدار أدهم بظهره متأففًا ليهرب من تساؤلات والده …..
… يتبع ……