أدب وثقافه

بائعة الورد  قصة قصيرة

كتب سمير لوبه 

بِجوارِ النَّافِذَةِ تَسبَحُ عَينَاه عَبرَ الزُّجَاجِ ؛ فَترَاه فَاتِحًا زِرَاعَيه يُسَابِقُ أقْرَانَه ، تُحَلِقُ ضَحَكَاتُهمْ الرَّنَّانَةُ فَوقَ صَفحَةِ البَحرِ الصَّافِيةِ ، وفِي قَارِبِ الصَّيَادِ يَمُدُّون أكُفَّهمْ الرَقِيقَةَ تُعَانِقُ كَفَ البَحرِ ، تَمْلَأ رَائِحُةُ اليُودِ صُدُورَهمْ ، تُغَازِلُ أشِعَةُ الشَّمْسِ أعينَهمْ البَرِيئةَ ، وعَلَىَ الكُرسِي الخَشَبِي وفِي فَضَاءِ البَحرِ الشَّاسِعِ تَسابِقُ عُيُونُهمْ الأموَاجَ المُتلَاحِقَةَ ، يُتَابِعُون شِباكِ الصَّيَادِين تَتَلَألَأ بِرِزْقِ المَنَّانِ ، وعَلَىَ الكُورنِيشِ يَرَونَها قَادِمَةً فِي ثَوبِهَا الزَّاهِي بِوَجهٍ وَردِيٍ بَاسِمٍ ، وبِصَوتٍ يُدَغْدِغُ أذَانَهمْ تُنَادِي :

– الوَردُ النَّادِي .. الوَردُ الصَّابِحُ .. تُغَني ” مين يشتري الورد مني ” 

يُهَروِلُون نَحوَهَا بِفَرحَةٍ غَامِرَةٍ ؛ يَشْرُون الوَردَ الصَّابِحَ يَنتَشِرُ شَذَاه بَاعِثًا البَهجَةَ فِي النُّفُوسِ ، يَقطَعُ شَرِيطَ ذِكْرَيَاتِه صَوتٌ مُفَاجِئ : 

– الرَّجَاءُ رَبطُ الأحزِمَةِ

وفِي الحَافِلَةِ يَبحَثُ عَبرَ النَّافِذَةِ عَنْ ذِكْرَيَاتِ الصِّبَا يُعَانِقُهَا ، تَتَوَقَفُ الحَافِلةُ فَجأةً ؛ صَخَبُ آلَاتِ تَنبِيهٍ يَنتَزِعُه مِنْ حُضْنِ الذِّكْرَيَاتِ ، يَسألُه جَارُه : 

– أينَ نَحنُ الآنَ ؟ 

– لَا أعرِفُ ، أربَعُون عامًا غَيَرت المَعَالِمَ تَمَامًا

يُلقِي بِنَاظِرَيه مِنْ نَافِذَةِ الحَافِلَة ، ِالوُجُوهُ عَابِسَةٌ مُكْفَهِرَةٌ ، بِشَتَّىَ الوَسَائلِ يَبلُغُ الجَمِيعُ غَايتَه غَيرَ مُكْتَرِثٍ بِمَنْ حَولَه ، الغُبَارُ يَحجُبُ وَجهَ الشَّمْسِ ، صَخَبٌ وضَجِيجٌ ،عَرَقٌ وزِحَامٌ ، ضَحِكٌ وبُكَاءٌ ، غِنَاءٌ وصُرَاخٌ ، يَختَلِطُ الحَابِلُ بِالنَّابِلِ 

– حَمدٌ للهِ عَلَىَ السَّلَامَةِ .. مَحطَةُ الوُصُولِ

ومَا إنْ تَطَأ أقدَامُه الأَرضَ حَتَىَ تَملَأ رِئتَيه أدخِنَةُ العَوَادِمِ ، أجوَاءٌ خَانِقَةٌ تُطبِقُ عَلَىَ الصُّدُورِ دُونَ شَفَقَةٍ ، وفِي اللُوكَاندَةِ العَرِيقَةِ :

– نَوَرت بَلَدَك 

– شُكْراً .. احجِزْ لِي أُسبُوعًا مِنْ فَضْلِك 

يَترُكُ حَقِيبَتَه ، يَحتَضِنُ المَيدَانَ الكَبِيرَ ، تَعلُوه الدَّهشَة : 

– أينَ بائعُ الفِشارِ ؟ أينَ السُّلَمُ الكَهرُبَائي ؟ أينَ السِّينمَا ؟ كان هُنَا دَلِيلٌ أينَ غَاب ؟ 

يَعتَرِيه الحُزنُ ، يَعبُرُ الطَّرِيقَ وَسطَ نُبَاحِ السَّيَارَاتِ المَسعُورَةِ ، يَبحَثُ عَنْ الكُرسِي الخَشَبِي ليَتَمَتَعَ بِصَفحَةِ البَحرِ لَا يَجِدُه ؛ المَكَانُ يَعُجُّ بِالبَشَرِ، تَحجُبُ البَحرَ بِنَايَاتٌ خَشَبِيةٌ وأسيَاخٌ حَديدِيةٌ، وفَجأةً يَرَاهَا فِي رِدَاءٍ رَثٍ لَطَخَتها أغْبِرةُ السِّنِينِ ، تَنفُثُ دُخَانَ سِيجَارَةٍ ، هَجَرَت الابتِسَامَةُ وَجهَهَا ، حَفَرَ الزَّمَانُ بِبَرَاثِنِه الحَادَةِ المَرَارَةِ عَلَىَ مَلَامِحِهَا ، فِي يَدِهَا وَردَاتٍ قَاتِماتٍ قَدْ نَالَ مِنهُن الذُّبُولُ :

– أنتِ هِي .. كُنْتِ تَبِيعِين لَنا الوَردَ تُنَادِين : الوَردُ النَّادِي .. الوَردُ الصَّابِحُ .. تُغَنِين ” مين يشتري الورد مني ” 

– كَان زَمَان 

يَتَجَرَعُ المَرَارَةَ .. يَتَأمَلُ جَوازَ سَفَرِه ، يَحمِلُ حَقِيبَتَه : 

– تَاكْسِي .. المَطَارُ مِنْ فَضْلِك  

بقلم #سمير_لوبه

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى