المقالات والسياسه والادب
حين يقولون ما لا يفعلون. الاستشارات بين الحقيقة والزيف

- “حينما يقولون ما لا يفعلون.. الاستشارات بين الحقيقة والزيف”
- كتبت/د/ شيماء صبحي
- في زمنٍ باتت فيه الشاشات الصغيرة هي المرجع الأول للكثيرين، تداخلت الحقائق بالأوهام، وامتلأت الساحة بأصوات مرتفعة تحمل لقب “استشاري” أو “خبير” دون أدنى سندٍ علمي أو تجربة واقعية. نسمع أحدهم يصرخ رافضًا “التعدد” على منصات التواصل، بينما هو في حياته الخاصة أستاذ في تعدد العلاقات. نراه يتحدث عن نفسية الأطفال وتأثير الأسرة، وهو في بيته أبٌ غائب، غارق في ذاته، تاركًا أبناءه يتخبطون بين فراغٍ عاطفي وغيابٍ تربوي.
- المفارقة الموجعة أن كثيرًا من هؤلاء يتوشحون بعباءة “العلم” و”الاستشارة”، في حين أن حقيقتهم زيف مقنّع، لا يمتّ بصلةٍ للعلم ولا للممارسة المهنية الرصينة.
- خطورة الظاهرة
- 1. تشويه المفهوم العلمي:
- حين يتصدر المشهد من لا يملك أدوات العلم، يُختزل علم النفس أو الاستشارات الأسرية إلى جُمل رنانة وشعارات جذابة، بلا عمق ولا أساس.
- 2. الضرر المباشر على الناس:
- المستشير يلجأ لطبيبٍ أو استشاري لأنه في أزمة، وعندما يضع ثقته في شخصٍ غير مؤهل، فإنه لا يخسر ماله ووقته فحسب، بل تتفاقم أزمته، وربما تتحول حياته إلى سلسلة من الانهيارات.
- 3. استغلال عاطفة النساء والفتيات:
- البعض جعل من “الاستشارات” ستارًا للاقتراب غير الأخلاقي من السيدات، متخذين المهنة غطاءً لتكوين علاقات شخصية بعيدة كل البعد عن قدسية العمل النفسي.
- 4. انعدام الرقابة:
- كثير من هذه المراكز أو الصفحات تعمل في الظل، لا تملك ترخيصًا ولا تخضع لرقابة الجهات المختصة، ما يفتح الباب أمام ممارسات خطيرة على المجتمع كله.
- ما الحل؟
- الأمر لا يتوقف عند التحذير العام، بل يحتاج إلى خطوات عملية واضحة:
- 1. دور الفرد:
- لا تأخذوا كلام أي شخص لمجرد أنه يضع لقب “استشاري” أمام اسمه.
- ابحثوا عن السيرة العلمية: شهاداته، ترخيصه، سنوات خبرته، واعتماداته.
- لا تجعلوا العاطفة أو الكلمات المنمقة بوابتكم للثقة.
- 2. المرجعية الأساسية:
- الأصل أن يُبنى كل توجيه على قال الله وقال الرسول، ثم ما يثبته العلم الموثوق لا التجارب الشخصية العابرة.
- 3. دور الجهات المسؤولة:
- متابعة الصفحات والمراكز التي تدّعي العمل في مجال الاستشارات.
- إلزام كل من يقدم خدمة نفسية أو أسرية بترخيص معتمد من نقابة أو وزارة مختصة.
- محاسبة المزيفين الذين يستغلون ثقة الناس لأغراض شخصية أو مالية.
- الخلاصة
- من أخطر ما يمكن أن يواجهه المجتمع أن يختلط العلم بالدجل، وأن يتصدر الشاشات من “يقولون ما لا يفعلون”. هؤلاء لا يدمرون أنفسهم فقط، بل يتركون خلفهم ضحايا يظنون أنهم وجدوا فيهم طوق نجاة، بينما لم يجدوا إلا سرابًا خادعًا.
- لهذا، كان لا بد من رسالة صريحة:
- لا تثقوا في كل ما يُقال على السوشيال ميديا.
- لا تتعاملوا مع أي شخص يرفع شعار “الاستشارة” إلا بعد التأكد من علمه ومصداقيته.
- ولتتحرك الجهات المختصة بصرامة حتى لا تُصبح حياة الناس وأسرهم ملعبًا لكل من أراد الشهرة تحت مسمى “خبير نفسي” أو “استشاري علاقات”.
- ازدواجية صادمة
- المثير للسخرية أن بعض هؤلاء ليسوا فقط أصحاب قصور في بيوتهم، بل هم أبطال في التناقض. تجده يخرج على العلن رافضًا فكرة “التعدد”، ويُقدِّم نفسه على أنه المدافع الأول عن حقوق المرأة واستقرار الأسرة، بينما في واقعه الخاص هو أستاذ في التعدد، يتنقل بين أكثر من علاقة، ويمارس ازدواجية نفسية وسلوكية صادمة.
- فكيف يُنتظر ممن لم يستطع أن يوفّق بين حياته الخاصة أن يُرشِد الناس إلى التوازن في حياتهم الزوجية؟ وكيف يُصدَّق من يتحدث عن “نفسية الأطفال” وهو في بيته صفر كبير أمام أولاده، لا يُدرك احتياجاتهم ولا يفهم أعماقهم؟
- قصة واقعية
- جاءتني إحدى الأمهات في استشارة وهي تبكي بحرقة، بعدما كانت تتابع ما يُسمى “خبير علاقات أسرية” على الإنترنت. كانت تعتبره قدوة لأنه دائمًا يتحدث عن حقوق المرأة، ويهاجم فكرة التعدد أمام جمهوره. وثقت فيه حتى أوشكت أن تستشيره في حياتها الخاصة.
- لكنها اكتشفت فجأة أنه في حياته السرية متزوج أكثر من مرة، ويتنقل بين علاقات متعددة، وأولاده في حالة نفسية يُرثى لها. كانت الصدمة قاسية عليها، لكنها تعلمت درسًا مهمًا: أن الألقاب لا تصنع الاستشاري، وأن الأقنعة تسقط مهما طال الزمن.
- الدرس المستفاد
- المصداقية قبل العلم: من لم يلتزم بمبادئه في بيته لا يمكن أن يكون قدوة لغيره.
- المتابعة بحذر: لا تنخدعوا في الشعارات، بل اسألوا دائمًا عن حقيقة الشخص، شهاداته، ومصداقيته.
- المحاسبة ضرورية: الجهات المسؤولة عليها دور أن تُسقط الأقنعة عن “المستشارين الوهميين” الذين يتخذون المهنة ستارًا لعلاقات جانبية أو شهرة زائفة.
- “من أراد أن يُرشِد الناس فليُصلِح بيته أولًا، ومن أراد أن يحمل لقب الاستشاري فليحمله بالفعل لا بالزيف، فالأمة لا تحتاج مزيدًا من ممثلين، بل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.”



