المقالات والسياسه والادب
دفء القلب كتبت/د/شيماء صبحى

دفء القلب
تذهب إليه أفئدةُ الناسِ ، وتَأَمَنُ بحضرتِه، لأنّه رَحبٌ كالسماء، ونقيّ كالنهر، ومأمون الجانب، ويمدّ يدَ العونِ لهُم كأنّهُ عليمٌ بحالِهِم، وشاعِرٌ بآلامهم،
كُلَّما مَدّ يدَهُ يُلملمُ شيئًا منهُ، بَعثَرَ بعضًا مِنْ بعضِه، وهكذا هو حاله، بين لَملَمةٍ وبعثرة، مكسورًا يحتاج إلى الجبر، مَخذولًا يتوق إلى العوض، وعليلًا التهَمَهُ عَطَشَهُ إلى المُسْتَرَاح، لا أحبُّ مَن يُرهقني من أمري عسرًا، بل أحبُّ كُلَّ بسيطٍ مُبسِّطٍ للأمور، مُشِعٍّ بالتفاؤل، ماهرٍ بالطَمْأْنَة، أحبّ من يجري على لسانه الكَلِمُ الطيّب، المُراعي لأثرِ فعله وعبارته، فلا يتصرّف دون فكرٍ ولا يُلقي الكلامَ على عَوَاهِنِه، وإنِّي دائمًا أميلُ إلى مَن لا يدَّخِرون لطفَهم بل يُشيعونه، ولا يمنعونَ خيرهم بل يُذيعونَه، فأولئك يرتاح بصحبتهم القلوب، ويتخفَّف من كلِّ أَكدارِهِ وغُمومِه.
لكَ قلبٌ هو أغلى ما تملك، فإيّاك ومنحه لمن كانت الخِسّة طبيعته، واللؤم سجيّته، والشُحّ عادته، وإنّما امنحه عن طيب خاطر لمن كان النُبل طبعه، والفضائل دربه، والمكارم عنوانه، وإلَّا فأنتَ أولَىٰ بهِ مما كان دون ذلك؛ والناس على قدر إكرامِهم لقلوبهم، فأكْرِمْهُ تكنْ مُعزَّزًا مُكرَّمًا.
وشكرًا لكل سقوطٍ جعلني أرتقي، ولكل حزنٍ أبكاني ثمَّ أخذَ بيدي إلى تطهير حياتي مِن كل ما يعطِّلها، ولكل المصاعب التي صقلتني وحوّلتني إلى شخصٍ أقوى وأكثر بصيرة، ولكل شِدّة قبل أن تزول عرَّفتني حقيقة نفسي التي كنت أجهلها، ولكل شخص خذلني ليعلّمني أنْ أختار بعناية مَن أليق بهم ويليقون بي، وألف شكرٍ للحياة لأنَّها تعطيني الدروسَ المفيدة رغم أنَّي أدفع ثمنها أبهض الأثمان!
بَقْدرِ ما انكسرَ قلبُكَ سيطرَبُ جَبْرًا وأكثر، وبقدر ما تَشَقَّقتَ أرضُ قلبِكَ كَمَدًا وَجَلدًا، سيرويكَ غيثُ العوضِ، وأمَّا عنْ إرهاقِكَ فستُغسَل مِنهُ روحكَ ذاتَ يومٍ، حينها ستضحك مِما مَضىٰ، وستبزغ شمسُكَ لِتذَوِّبَ ظَلامَك، فلا تُسقِط أَمَلَكَ، وأحسِنْ إلى نفسِكَ بالظنِّ الجَميلِ يُحسِنْ اللّٰهُ بك، وتحصدْ ثِمار حصول ما غابتْ عنك حِكمتُه!
ينضجُ المرءُ بِمقدار جرأتِه على الحياة، بغض الطرفِ عمَّا تركت حَوَادثُ الدهرِ من تشوّهاتٍ بداخله، وجروح في عقله، ودمعات لم تجفّ بذاكرته، ورغمًا عن أنفِ الظلام الذي يحشو عَلاقَاتِنا بذواتِنا، ورغمًا عن أنفِ الأحزانِ التي لا تسكتُ عنَّا وتتفصَّد منَّا في كلِّ مكان، فَالذي لم يقضِ علينا يصنعنا، يجعلنا أكثر جدارة بالوجود، وأعمق رؤية للطريق، وأشدّ افتتانًا بجمالياتِه المخبوءة، وأكثر تقديرًا وامتنانًا للإنجازات الصغيرة والمُتَع البسيطة.
نعم بشكلٍ أو بآخر ننقم على التجارب التي اغتالتْ فينا البراءة وجعلتنا نشعر أننا من القاسية قلوبهم، لكن من أعماق أعماقنا نشكر تلك التجارب، فقد اختصرتْ علينا الكثير من الدروسِ والعِظات وأرتنا الحياة بوجهيها القبيح والحَسَن حتَّى نُشغَف بها كما هي، ونحبّها جُملةً وتفصيلًا، لا نُحبّ بعضًا ونَكفُر ببعض، ومهما أتانا النُضج مُقنَّعًا بقِناع القسوة فسنفتح له أبوابنا على مِصراعيها دونَ وعيٍ منَّا، لأننا نريدُ أنْ نعيش ما تيسَّر لنا من حياة وهو أقصي طريقٍ لها، وقد كبرنا بما فيه الكفاية لنعرف أنَّ مَنْ أراد حَلاوةَ الشيء كان لِزامًا عليه أنْ يتقبّل مُرَّه بصدرٍ رحب