بقلم د/ محمد بركات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد علي آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمن يزرع الأمل في نفوس الناس يزرع الحياة الطويلة التي تستمر بوقود النور الذي يبدد ظلمات اليأس والإحباط وينهي عقودا طويلة من عوامل الإحباط وتقلبات الأمور وسيء الأحداث.
إن الزارع للأمل هو أحد أبطال الإنسانية الحقيقيون من نحتاج إليهم في كل عصر ومصر.
بملامحه التي ظهرت عليها أمارات اليأس والإحباط.. توجه الشاب الضرير ” علي” إلى قطار الدرجة الثانية بصحبة أخيه.. والذي أجلسه في مقعد خال متستعينًا بمصباح هاتفه حيث ساد القطار المتهالك ظلام سائد.. ثم ودعه وانصرف.
وحتمًا لم يدر ( علي ) بأنه يجلس بجانب رجل يبدو من هيئته بأنه قد تجاوز عقده الخامس.. يجلس في مقعده وابتسامة عذبة قد ارتسمت على محياه.. حال الظلام والعمى بين علي وبين رؤيتها.
وهنا جرس الهاتف يدق.. فيخرج علي هاتفه من جيب معطفه.. وظهر أن المتصل هو والده.. والذي حادثه قليلًا.. ثم رد عليه علي:
لا تقلق يا والدي فابن عمي سينتظرني كما تعرف في المحطة.
لا تخف.. وضحك ضحكة متهالكة ساخرة قائلًا: حتى إن حدث لي مكروه.. ، فلن يضر العالم وجودي من عدمه..
أنا أعيش كالحيوانات أتناول طعامي وأخرجه.. وأنام لا أختلف عن السرير الذي أنام عليه.
كيف لا أقول ذلك الكلام يا أبي؟..
أليست هذه حقيقة؟..
إنني أتمنى الموت في كل دقيقة..
حسنا يا أبي.. سأتصل بك بمجرد وصولي.
وقد انتهت المكالمة الهاتفية.. فإذا بيد حانية تأخذ طريقها إلى كتف أمجد.. تبعتها كلمات ذلك الشيخ الذي يجلس بجواره؟..
لماذا كل هذا القدر من التشاؤم يا ولدي؟
الحياة جميلة.. أجمل مما تعتقد..
علي: وهو يكبت ضيقه:.. جميلة؟
وما الجميل فيها يا والدي؟
الشيخ: أنك موجود فيها.. أثارت الكلمة انتباه علي .. فرد باهتمام: كيف؟
قال الشيخ: لأنها من أجلك.. هكذا خلقت من أجلك الشمس والنجوم والشجر والبحار والأنهار.. لأنك خليفة في الأرض..
علي : قل هذا الكلام لمن يرون الحياة.. ويشاهدون ما تتحدث عنه.. الذين يشاهدون جمال الطبيعة كما تشاهدها أنت تمامًا.. و…
قاطعه الشيخ: لكن تلك المشاهد حية في كيانك.. في حسك.. فقط دع عنك اليأس والإحباط.. سترى جمال الحياة كما أراها..
سترى مشهد الغروب عندما تعانق الشمس صفحة المياه وتغيب في أحضانها.
بدا علي مشدوهًا من تلك العبارات التي بدت وكأن صاحبها يرسم بها لوحة شعرية. لكنه تابع الإنصات والشيخ يستطرد:
سترى مع تفتح الزهرة أمل جديد في الحياة.. سترى سريان ماء النيل ينتقل بك بين القرون السابقة واللاحقة في نهر الزمن..
قاطعه علي باهتمام: سيدي هل أنت شاعر؟..
ابتسم الشيخ ابتسامة عريضة مجيبًا: لا يا ولدي.. ولكنني أرى جمال الحياة..وحطم جمالها كل ذرة يأس قد يدب إلى نفسي..
علي: ليتني كنت متفائلًا مثلك.. ولكن كما يقال: يدك في المياه.. ويدي في النار.. ولن تشعر بمرارتي.
الشيخ: يا ولدي إن كان الله قد أخذ بصرك فلم يحرمك من البصيرة.. وإن كان قد سلب منك نعمة.. فقد أنعم عليك بما لا تحصيه عددًا..
لماذا تنظر إلى ما أُخذ منك.. ولا تنظر إلى ما أعطيت.. لا تستصغر نفسك وتحتقرها على حالها.. وانظر إلى ما ذخر به العالم ممن سلبوا نعمة البصر.. وصاروا فخرًا لأن يذكرهم التاريخ.. لماذا ترى نفسك أقل من هؤلاء؟..
علي : أتعرف.. إنني لم يسبق لي أن حدثني أحدهم بهذا الشكل.. كلامك أجد له أثرًا عميقًا في نفسي..
الشيخ: إذا فلتطوي صفحات الماضي.. واعتبر هذه اللحظات بداية حياتك.. وولادتك الجديدة.. وعاهدني على أن تستثمر كل موهبة وطاقة لديك.. في أن تسير إلى الأمام.
تهلل وجه الشاب علي وهو يقول: لقد فجرت في نفسي مشاعر كنت أظن أنها ماتت.. إنني أشعر الآن بقوة لم أعهدها.. وأرجوك كن على صلة بي دائمًا.. وتفقد أحوالي.. أنا أحتاج لمثل هذه الروح التي بعثت فيَّ الأمل من جديد.
ربت الشيخ على كتف الشاب في حنان وهو يقول: إنك لست بحاجة إلي..
فأنا على يقين من أنه قد ولد فيك العزم من جديد.. سأنزل في المحطة القادمة.. في رعاية الله يا ولدي.
وفي سرعة سأله علي:
هل كنت في عمل؟..
أجاب مبتسمًا: نعم.. عمل يومي.. أستقل القطار يوميًا من المنطقة التي اقيم فيها إلى منطقة أخرى.. وأعود في أول قطار.
تعجب الشاب، وقال: لماذا؟.. اتسعت ابتسامة الشيخ وهو يقول: أزرع الأمل في قلوب مات فيها الأمل..
قالها وهو ينهض حيث توقف القطار في المحطة وودعه: في رعاية الله يا ولدي.. في رعاية الله..
فأجاب الشاب ممتنًا: في أمان الله يا زارع الأمل.. ولكنه سرعان ما اتسعت حدقتاه دهشة.. إذ سمع صوتًا مألوفًا لديه من قِبل الشيخ.. صوت عصا طويلة رفيعة يملك أمجد أختها يتحسس بها الأعمى الطريق.
ازرعوا الأمل في نفوس الناس وإن بدت الأحداث في زماننا علي غير المراد فسبحانه وتعالي من يبدد ظلام الليل ويشق الفجر كبد السماء هو وحده كفيل بتغيير الحال وتعديل المآل .
تابعنا على