أخبارالسياسة والمقالات

طــارق على بـــاب الطــــرب

بقلـم/ د. طــارق رضــوان
راودتُ قلمى للكتابة فعصى، فسألتُه مندهشاً ما شأنُك؟ أتعصانى وتتركنى وحيداً؟ فطلب بلطفٍ وأدب “هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ
مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا” . فأخبرته “إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا”. فأكتفى بما لديك فقليل تشكره خير من كثير يطغيك. وكيف تصبر
على ما لم تحط به علما؟! ثم إنك قلم ولست بإنسان يعى .فقَالَ “سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا”، فَمَكَثَت غَيْرَ
بَعِيدٍ وأخبرته أنى أَحَطتُ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ وَجِئْتُه بِنَبَإٍ يَقِينٍ.
فأخبرته أن الأمر جَلَل وجَدّ خطير.قال زدنى. وصار قلمى صديقى الفصيح وناصحى الأمين. وهكذا تبادلنا الحوار. فبدأنا
ننصت بإهتمام وتدبر. أخبرته أن الأمر يتعلق بتربية وتوعية جيل وإفساد أمة عريقة لها تاريخ عربى طويل، وإفساد لذوق عام
وتدمير فن الطرب العربى الأصيل. فهيا ندرك ما يمكن إدراكه من جيل نأمل أن يحمل راية وأمل أمة عربية عريقة.
أخبرته أننى أريد أن أتخذ منه سلاحاً ضد السفاهة والكلمة الرخيصة والنغم العليل. فأنا وهو نحمل أمانة النصح وعلى الله
التدبير. فأعترض القلم وقال وما شأننا بهذا؟ فذكرته بوعده قائلاً: ” أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا “.
فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا”. “قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا”. وانطلقنا
نبحث الأمر ونعرف ما به من عيوب وأضرار جسيمة ومن وما الذى ساعد على إنتشار هذه الظاهرة والفتنة الأليمة، من
مهرجانات غنائية ذميمة وعرض كل ما هو رخيص على أذن المستمع من موسيقى وكلمات عليلة أثمة خادشة للحياء.
فيا قلمى تجلد وتحمل فالفن ،ومنه الغناء، مثلُه مِثل الكثير من الفنون يلزمهُ الضمير، وأمانة القول لتربية جيل. إن ما نسمعه من
أغانى وما يكتبه الشعراء هو مؤشر لحضارة الأمة وثقافتها. وبهذا الحال فهى فى إنحدار مخيف. ولك أن تعلم يا قلم الصديق أن
حب الغناء عند العرب له طابع خاص وأبعاد تاريخية ونفسية عميقة، فأشهر كتب التراث العربي القديم، وربما أكثرها رواجاً
حتى اليوم، هو كتاب الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني. وأشهر الفنانين عند العرب المعاصرين هم المغنيون والمغنيات.
فأنقسمت أراء النقاد حول ما يسمى بالمهرجانات فقال الشاعر والكاتب يسري حسان، عن هذه الظاهرة في كتاب بعنوان ” هتاف
المنسيين”: “أن المهرجان لا يخرج عن المفهوم التقليدي للأغنية الشعبية، فهو يأتي من البيئة الشعبية، ولا تخلو كلماته من
كلمات شعبية بسيطة، تعبر عن قضايا وهموم البسطاء، لذلك يمكن اعتبار المهرجان غناء شعبي أصيل يتماس مع المجتمع؛ لأن
من يقدمه لا ينفصل عن الناس ويعيش نفس همومهم وقضاياهم.”. وللعلم أول مهرجان قدمه شباب مدينة السلام فى 2007.
ولكن الدكتور زين نصار، أستاذ النقد بأكاديمة الفنون، يرى أن المهرجانات ومطربيها هجمة شرسة على التقاليد المجتمعية ،
لأن” إفساد الفن هو أول خطوات إفساد المجتمع”، وأنه من الضروري أن يتبع قرار إيقاف مطربي المهرجانات تحركات قانونية
ضدهم.
وجدير بالتنويه إليه تجربة الفنان المصرى أحمد عدوية: فالإنفتاح الإقتصادي الذي أعلنه الرئيس السادات، ساهم في نشاط شركات الكاسيت بغزارة شديدة، والتي سيطر على أصاحبها أهداف الربح السريع بغض النظر عن مضمون الأغنية، كذلك أصبحت الأغنيات ذات إيقاع سريع معبر عن التغيرات الاجتماعية، فتجد أبرز أغنية تعبر عن هذه المرحلة «زحمة يا دنيا زمة» لعدوية.
كان الفنان أحمد عدوية، والذي قدم في بداياته كلمات هوجمت من النقاد والصحافة، رغم اعترافهم بأنه يتمتع بصوت مميز، ولكنها لاقت قبولا لدي الجمهور وذلك لأنها كانت نغماتها الحزينة والشجن في بعض الأحيان تواءم الطابع الاجتماعي الحزين بعد هزيمة1967، وأن بعض الفنون تميزت بالسطحية وتلقائية الكلمات، ولكنها كانت تضيف «البهجة والفرفشة» التي تنسي المواطن واقع الهزيمة المرير. واستطاع الاستمرار واللحاق بجيل الألفية، واعتمد عدوية على تاريخه لدي جمهوره ليعود ويشارك أجيال أخري جديدة من المطربين مثل رامي عياش وآبو.
وهنا السؤال ما ومن الذى ساعد على ظهور وانتشار هذه الظاهرة؟ وتجيب الدكتورة ياسمين فراج حين ربطت في كتابها بين القرارات السياسية في فترة الألفينات وانتشار المهرجانات؛ فتؤكد أن مشروع حكومة أحمد نظيف «كمبيوتر لكل مواطن» تسبب في أن تسود الفوضى الموسيقية، فبالرغم من النواحي الإيجابية للمشروع، إلا أنه أصبح بإمكان أصحاب التعليم المتدني استخدام برامج بدائية، يصنعوا بها أغنية تطير للجمهور، وهو ما استمر لما بعد ثورة يناير2011، وساهم في صعود الأسماء والفرق الشعبية الموجودة ليومنا.
فالمهرجان هو مزيج تسيطر عليه الموسيقى الإلكترونية واعتماد أقل على الكلمات.
وسألت قلمى هل تعرف ان الفرق شاسع بين العتاب على الحبيب فى غناء أم كلثوم عن غناء العصر الحالى.. هل لاحظت ذلك؟
فقال لا، أخبرنى.
حسناً إليك ما غنى المطرب المصرى مدحت صالح:
“تعرفي تسكتي بطلي أفكار مش عايز أسمعلك حس ولا أنتى الحالة خلاص مسكتك تعرفي تسكتي ولا أسكتك” بهذه الكلمات
القاسية التي لا تليق بأن تكون حديث بين الأحبة فاجأ مدحت صالح جمهوره بأغنيته “تعرفي تسكتي” التي جاءت كلماتها
صادمة.
وليس بالضرورة أن تتضمن أغاني العتاب هجوم على الحبيب أو تحتوى على مصطلحات قاسية، فقديما كان العتاب في الأغاني
يتوج بالإحترام بين الطرفين ويتسم بالرومانسية، وهذا ما تعلمه العشاق والأحبة على أغاني الست أم كلثوم عندما قالت “”يا
ناسينى وإنت على بالى، وخيالك ما يفارق عينى، ريحنى واعطف على حالى، وارحمنى من كتر ظنونى” وفي مرة أخرى
عندما كان العتاب قاسيا قالت أم كلثوم لحبيبها “إنما للصبر حدود” وغيرها من الأغاني التي جسدت المعنى الحقيقي لعتاب
الأحبة ولكن دون تجريح.
وفي هذا الزمن ووقتنا الحالي تغير مفهوم الحب والعتاب، لم تعد الحبيبة تتعامل مع فراق حبيبها كما فعلت أم كلثوم من قبل
والعندليب من بعدها وغيرهم ، فهناك جيل أخر من المطربين استمتعنا معهم بأغاني العتاب والهجر الرومانسية ومنهم محمد
فؤاد الذي قال لحبيبته “فاكرك يا ناسيني بعدك على عيني” وجمال العتاب بين العشاق سمعناه من عمرو دياب في أغنية
“صعبان عليا يا غالي من اللي انت عملته فيا”.
ومن جهتها، قالت الفنانة المصرية رنا سماحة إن: “الأغاني منذ أيام الفراعنة حتى الآن ولدت في الأساس من رحم الحب”،
مؤكدة أنه مهما تطورت الظروف وتطور الزمن وتغيرت الموسيقى بأي شكل ستبقى الأغنية العاطفية لها دور كبير جداً في أي
قصة حب.
وسألنى هل يشعر أهل المهرجانات أن لهم دور فنى فعال…فما قيمته وقيمتهم… وبماذا سيذكرهمالتاريخ الفنى؟
فأخبرته أن الإجابة تظهر إذا ما قارنت دورهم بدور فنان مصرى أصيل مثل زكريا الحجاوى الذى عاش كما أراد.. لا كما أراد
له الناس.. زكريا الحجاوي عاشق المداحين والبسطاء والفقراء والفلاحين.. الرجل الذي أحب مصر فأعطته أفضل نبتها من
قراها الطيبة، فحمل الريس متقال إلى العالمية ، وقدم محمد طه وشوقى القناوي وجمالات شيحة وأبودراع إلى جمهور الغناء
وخضرة محمد خضر التي تزوجها ولمع صوتها في «أيوب المصري» و«ملاعيب شيحا» وكتب زكريا آخر موال في خضرة
التي غنت )زرعت فدان جمايل وأربعة معروف .. ورويتها يا ما شهامة بالزوق وبالمعروف ). فالغناء الشعبي هو لسان
الشعب، غالبا ما كان يتغنى بقضايا الطبقة الكادحة.
ولأن قلمى يحب الفن الأصيل الراقى ويعشقه فاراد أن ينير لى الطريق متسائلاً : أين الأفلام الغنائية الجميلة التى عشقناها فى
الصغر؟ وأين دور المستمع من التصدى لظاهرة المهرجانات؟ لكننى أخبرته أن التصدى يحتاج توعية المواطنين بمفاسد الكلمة
الرديئة وخطورتها على تنشئة الجيل الجديد. وأخبرته أنى أعلم تاريخ الأفلام الغنائية القديمة. فقد كانت فترة الخمسينات
والستينات من أزهى عصور الأفلام الغنائية وذلك يرجع إلى التنوع الكبير فى أنواع الموسيقى المقدمة ووجود فنانين كبار أثروا
الحياة الفنية وقتها بأروع الأغانى والألحان وكذلك الإستعراضات والتى تعد “فرقة رضا” هى بطلها بلا منازع. ولكن مع الوقت ودخول عصر (سينما المقاولات) فى فترة السبعينات، ثم بدأ ينحصر ذلك النوع من الأفلام حتى عاد للظهور مرة أخرى على إستحياء فى فترات متباعدة فى التسعينات وبداية الألفية الجديدة.
تم تقديم فيلم (أنشودة الفؤاد) فى الرابع عشر من إبريل عام 1932، عقب إنهيار المسرح الغنائى فى مصر وحدوث الأزمة الإقتصادية عام 1930. ونجحت أفلام “محمد عبد الوهاب” الغنائية فى بداية الأربعينات نجاحاً تجارياً ساحقاً، كان لهذا بالغ الأثر فى تشجيع المنتجين السينمائين على إنتاج أفلام غنائية لكبار المطربين والمطربات، ليظهر على الساحة نجوماً مميزين كان أبرزهم فريد الأطرش والذى قدم عدداً من الأفلام الغنائية منها :(إنتصار الشباب) مع شقيقته أسمهان، وكذلك أفلام (ما أقدرش)، (حبيب العمر)، (عفريته هانم)، (آخر كدبة)، (لحن الخلود)، وفيلم (أنت حبيبى) الذى قدمه مع شادية والذى يعد من أهم وأنجح الأفلام الغنائية التى تم تقديمها وضم ثنائياته مع شادية فى أغنية (يا سلام على حبي وحبك) وأغنية (زينة).
لم يمر وقت طويل حتى بدأت أجيال جديدة بالظهور خاصة فى الخمسينات والتى يعتبر نجمها الأول المطرب والملحن ” محمد فوزى” والذى كان يسبق جيله بكل المقاييس من حيث أنواع الموسيقى التى قدمها فى ذلك الوقت والتى تميزت بخفة ظلها وتنوعها وتجددها الدائم وقد قدم “فوزى” ما يقرب ال 36 فيلم كان أهمها: الزوجة السابعة، الأنسة ماما، بنات حواء، دايما معاك، وورد الغرام والذى قدم فيه أشهرأغنياته (شحات الغرام) مع المطربة “ليلى مراد”، والتى بدورها تعد من أهم المطربات التى قدمت أفلام غنائية إستعراضية من إنتاج الفنان “أنور وجدى” والتى شملت الأغانى والرقص والفقرات الإستعراضية والفكاهية.
فالنجاح فى زمن الفن الجميل لم يكن وليد الصدفة ولكنه جهد وتخطيط ممنهج وتنظيم لكل تفاصيل العمل الفنى وكمثال لذلك أفلام شويكار وفؤاد المهندس: من اشهر الثنائيات فى التمثيل والغناء أيضاً هو ما قدمه أستاذ الكوميديا ومهندسها ” فؤاد المهندس” والفنانة “شويكار” وذلك فى ستينات القرن الماضي، ومن أشهر تلك الأفلام الغنائية التى قدمها هذا الثنائى، فيلم (مطاردة غرامية) عام 1968 والذى قدما فيه إسكتش (قلبى يا غاوى خمس قارات) والذى يعد من أشهر الإسكتشات الغنائية، بالإضافة إلى أفلام : ( أنت اللى قتلت ببايا)، (أجازة غرام)، (ربع دستة أشرار).
وحديثا نجد أفلام غنائية قليلة متباعدة مثل فيلم “مفيش غير كدة”، فيلم ” فيلم خالى من الكوليسترول” وفيلم ” فيلم رشة جريئة”
ورغم التطور الكبير فى عالم صناعة السينما والطرب، ورغم أهمية الأفلام الغنائية التى ساهمت بشكل كبير فى تطور الغناء المصرى بما يناسب اللغة السينمائية وأحتفظت لنا بصور كبار المطربين و المطربات فى مراحل حياتهم الفنية المختلفة، إلا أن ندرة ذلك اللون من الأفلام وإنقراضها أصبح مصيراً يواجهه ، ويرجع هذا لأسباب عديدة ربما البعض منها رغبة المنتجين فى صناعة أفلام تحقق عائد مادى كبير دون النظر إلى إحياء هذا النوع من الأفلام، أوعدم رغبتهم فى إنفاق العديد من الأموال على مثل تلك الأفلام المُكلفة.
بدات مقالى بمدخل قرأنى وكأنى صعدت بالقارىء لعنان السما فيبصر خيرها ويدرك شر الأرض بما فيها من إفساد البشر لحضاراتهم وثقافتهم وأمانه أودعها الله بين أيديهم.
وأخيرا أسأل الله الهداية لنا جميعاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى