غيـر قـابـل للإنســجـام… “مارليــن مونــرو” بقلـــم الأديب المصـــرى د. طــارق رضــوان جمعــه
“غسيل الدماغ” هو أسلوب
قديم استخدمه المصريون القدماء
وتم تطويره عبر التاريخ
ولكن أشهر من استخدمه هم
الصينيون الشيوعيون
في عام 1950 عندما كان
الصينيون يطبقون برنامج
يسمى الإصلاح الفكري
الشيوعي الصيني،
حيث اعتقد الصينيون
أن الأفراد الذين لم يتعلموا
في مجتمع شيوعي لديهم أفكار
برجوازية ويجب إعادة تعليمهم
قبل أن يأخذوا مكانهم في المجتمع.
إن أسلوب استخلاص
الاعترافات كان معروفاً
في التحقيقات البابوية
التي جرت في القرن
الثالث عشر الميلادي
، ثم فيما بعد
وبخاصة داخل مجالات تحقيق البوليس السري الروسي أيام القيصرية، وفي وسائل تنظيم سجون الإصلاح،
ومستشفيات الأمراض العقلية وغيرها من المؤسسات التي أقيمت لإحداث التغييرات العقائدية عند الأفراد، كما
استخدمت أساليبها في الطوائف الدينية المختلفة، وفي جماعات الصفوة السياسية، وفي المجتمعات البدائية عند
تكريس الأعضاء الجدد.
أيضاً، ربما يختلط بنا الأمر فنمزج بين عملية غسيل المخ، وبين عمليات التوجيه الديني والتعليمي والاجتماعي. فمثلاً
قد يتسائل الكثير من أصحاب الحرف التربوية والاجتماعية عما إذا كانوا يمارسون في صميم عملهم نوعاً من غسيل
المخ، المدرس قد يتسائل عن جوهر عمله التربوي، وأطباء العقول يسألون عن حقيقة تدريبهم للمرضى بواسطة
العلاج النفسي، ورجال الدين يسألون أيضاً عن طبيعة وسائلهم الإصلاحية. وهنا يتصدى خصوم هذه الأوجه من
النشاط لأصحابها فيزعمون بأن أعمالهم كلها ليست شيئاً آخر غير غسيل المخ.
وطبيعي أن غسيل المخ ليس هذا، ومعنى ذلك أنه إذا استخدم استخداماً مطلقاً يجعل المصطلح نقطة تجمع
للخوف والامتعاض، ولتوجيه التهم جزافاً دون تقدير لأي مسئولية.
(غسيل الدماغ (بالإنجليزية: Brainwashing) يقصد به تحويل الفرد عن اتجاهاته وقيمه وأنماطه السلوكية وقناعاته،
وتبنيه لقيم أخرى جديدة تفرض عليه من قبل جهة ما سواء كانت فرداً أو مجموعة أو مؤسسة أو دولة. ويندرج
مصطلح غسل الدماغ تحت مسميات مختلفة تحمل المفهوم نفسه مثل: إعادة التقويم، وبناء الأفكار، والتحويل
والتحرير المذهبي الفكري، والإقناع الخفي، والتلقين المذهبي، وتغيير الاتجاهات.
استخدم عالم النفس الهولندي جوست ميرلو مصطلح قتل العقل (باللاتينية: Menticide) للتعبير عن عملية غسيل
الدماغ، مشيراً إلى أن العملية توجد خضوعاً لا إرادياً وتجعل الناس تحت سيطرة نظام لا تفكيري.
تنفذ هذه العملية غالباً بمرحلتين متداخلتين هما:
المرحلة الأولى (الاعتراف): وهو الإعلان والاعتراف بما ارتكب من أخطاء في الماضي. ويمكن تحقيق هذه المرحلة
بالإجراءات الآتية: عزل الفرد اجتماعياً، الضغط الجسدي، التهديد وأعمال العنف، السيطرة الكاملة على كيان الفرد،
الضياع والشك، تثبيت الجرم، الاعتذار والإكرام للفرد، مرحلة الاعتراف النهائي.
المرحلة الثانية (إعادة التعليم والتثقيف): وتدور هذه المرحلة حول إعادة بناء فكر الفرد في الصورة الجديدة التي يراد
له أن يكون عليها. وفي هذه المرحلة يحدث تغيير في مفهوم الذات لدى الفرد، ويتم محو الأفكار غير المطابقة لأفكار
القائم بعملية الغسل، ثم تقدم أفكار ومعايير سلوكية وأدوار اجتماعية جديدة.
للسيطرة على بيئة الشخص الاجتماعية تبذل كل محاولة لتحطيم ولائه لأي فرد أو جماعة خارجة، ويصحب هذا أن
يوضح للشخص أن اتجاهاته وطوابع تفكيره غير صحيحة ويجب تغييرها، كما يجب أن يعطى ولائه الكامل لعقيدة
معينة ويخضع لها دون تردد.
أحد أكثر أولئك المحللين شهرة على الإطلاق يُدعى “رالف غرينسون“، لجأت إليه النجمة الأكثر شهرة في العالم
آنذاك “مارلين مونرو”، كانت تعاني اليأس والإدمان على الكحول والمخدرات. في الحقيقة، ما فعلهُ الدكتور غرينسون
هو اتّباع أفكار صديقته المقرّبة آنا فرويد، إذ كان يرى أن جعْل مارلين مونرو متوافقة مع ما يعتبره المجتمع نمطاً
طبيعياً للحياة والسلوك سيُساعدها في تحفيز الأنا الخاص بها، ويمكّنها من التحكم بالدوافع الداخلية الخطيرة
والمدمّرة!
عمليّاً، قام غرينسون بدفع مارلين مونرو إلى أقصى حدود أفكار آنا فرويد، أقنع الممثلة الشهيرة بالانتقال للعيش في
منزل قريب من منزله، ومُشابه له في التصميم والزينة، ثم أدخلها إلى حياته الأسريّة، ولعبَ هو وزوجته وابنته دور
العائلة لها، وجعلَ من نفسه نموذجاً، كأبٍ مثاليّ لمارلين مونرو، وورّط زوجته وابنته في تلك التمثيلية، إذ -حسب
أفكار آنا- من شأن ذلك أن يمنحها الكثير من الحب الذي تفتقده، ويساعدها في تعزيز دور الأنا لديها. لكن على الرغم
من كل جهوده، لم يتمكن غرينسون من مساعدة الشابة الجميلة، وهكذا في الخامس من آب/أغسطس عام 1962
انتحرت في منزلها.
صدمَ انتحار مارلين مونرو الكثيرين في مجتمع التحليل النفسي، بما في ذلك آنا فرويد نفسها، وبدأت شخصيات بارزة
في الحياة الأمريكية ممن كانوا متحمّسين له في السابق يتساءلون الآن عن السبب الذي مَنح التحليل النفسي كل
هذه القوة في الولايات المتحدة، وعما إذا كان مفيداً حقاً للأفراد، أم أنه شكل من أشكال القيد لمصالح النظام
الاجتماعي والسياسي؟! من بين المنتقدين للتحليل النفسي كان زوج مونرو، الكاتب الشهير آرثر ميللر.
في مقابلة معه عام 1963 يقول: خلافي مع الكثير من المحللين النفسيين هذه الأيام هو تصوّرهم المسبق أن ثمّة
خطأ في المعاناة، أنّ المعاناة علامة ضعف، أو علامة مرض، بينما في الواقع ربما تكون أعظم الحقائق التي نعرفها
قد وُلدت من رحم معاناة الناس.. إنّ حل المشكلة لا يكمن في إلغاء المعاناة أو محوها من على وجه الأرض، إنما في
جعلها تُنير حياتنا، عوضاً عن أن نحاول علاج أنفسنا منها باستمرار، أو أن نتجنَّبها، ونتجنَب كل شيء غير ذاك الإحساس
الذي يسمّونه (السعادة)… يبدو لي أنّ هناك محاولات للسيطرة على الإنسان بدلاً من تحريره، محاولات لتأطيره بدلاً
من تركه وشأنه، وهذا جزء من آيديولوجية هذا العصر المجنون، المهووس بالسُلطة”.
في أواخر الخمسينيات وبداية الستّينيات كانت الطريقة التي يُستخدم فيها التحليل النفسي من قبل الشركات
للسيطرة على الناس عُرضة للنقد المستمر، اتهمَ فيه المحللين النفسانيين باختزال الشعب الأمريكي، وتحويلهم إلى
دمى عاطفيّة وظيفتها الوحيدة هي الحفاظ على خطوط الإنتاج الضخمة، كيف خلقوا الاشتياق الدائم والمستمر لكل
العلامات التجارية والصيحات والموديلات الجديدة، وكيف حوّلوا الناس إلى مشاركين مُرغمين على تقبّل نظام
التقادم الاستهلاكي، وجزءاً من عملية سقوط مخطَّط لها بعناية.
ضربة أخرى تلقّاها التحليل النفسي من الفيلسوف والناقد الاجتماعي البارز “هربرت ماركوزه” وهو الخبير بأساليب علم
النفس، يقول في مقابلة عام 1967: “هذا تطبيق صبياني للتحليل النفسي لا يأخذ بعين الإعتبار الإهدار الحقيقي
السياسي الممنهج للموارد التكنولوجية والعملية الإنتاجية ككل…. أعتقد أنّ في المجتمع كمّية غير معقولة من (العنف
والهَدمّية) المتراكمة على وجه التحديد بسبب (الرفاهية الفارغة) التي (تُستثار ببساطة).
قال ماركوزه بأن فكرة الحاجة للسيطرة على الناس كانت خاطئة، وأن لدى الناس أصلاً دوافع عاطفية داخلية لكنها لم
تكن بطبيعتها عنيفة أو شريرة، إنما المجتمع هو من جعل تلك الدوافع خطرة من خلال قمعها وتشويهها. (قامت آنا
فرويد وأتباعها بزيادة الأمر سوءاً عبر محاولاتهم جعل الناس يتوافقون مع المجتمع، وبالتالي جعلوهم أكثر خطورة).
كذلك، تحدّى ماركوزه العالَم الاجتماعي، قال بأنه عالم لا ينبغي التكيّف معه، وأن الأفراد كانوا يُدفعون باتجاه التكيف
مع ماهو فاسد وشرير، وشدّد على أن الصراع ضد الشر لايكمن في داخل الإنسان (بين وعيه ولاوعيه)، إنما بين
المجتمع نفسه، وأن المجتمع المريض هو مجتمع مريض وليس فرداً مريضاً فحسب، وأنه يتوجّب على الناس أن
يَتحدّوا ذلك، وإلا يسقطوا ويخضعوا للشر جميعاً.
يقول مارتن لوثر كينغ عام 1967: “لِعلم النفس الحديث جملة يُكررها دائماً وهي القول بأن أحداً ما (غير قابل
للإنسجام ) في الحقيقة جميعنا يُريد أن يعيش حياةً منسجمة بعيداً عن العُصابية والفصاميّة، لكنني أريد أن أقول
لكم اليوم، وبكل أمانة، إنّ ثمة أشياءاً في مجتمعنا وعالمنا أشعر بالفخر لكوني غير منسجم معها، وإنني لأدعو كل
إنسان ذو إرادة خيّرة أن يكون غير منسجم معها، إلى أن نتمكّن من التعرّف على معنى (المجتمع الخيّر)… يتوجب
عليّ أن أقول لكم بكل أمانة إنني لا أنوي أبداً الانسجام مع الفصل العنصري، ولا التعصب الديني، لن أنسجم مع
الظروف الاقتصادية التي تَقتطع من حاجات الأغلبية لتلبّي رغبات ورفاهية الأقلّية، تاركةً الملايين من أبناء الرب
يختنقون في قفص الفقر المدقع داخل مجتمع غني”. شهدت أواخر الستينيات من القرن الماضي لحظات ومواقف
كثير شاهدة على السقوط المتتابع والمدوّي للتحليل النفسي الفرويدي في الولايات المتحدة…
لعلّ الضربة الأكثر إيلاماً جاءت لاحقاً من ابنَي دورثي برلنغام اللذين كان قد حلّلتهما آنّا فرويد سابقاً، إذ في العام
1970 توفيَ أحدهما يدعى “بوب” جراء معاقرته للكحول عن 55 عاماً عقب معاناة طويلة وجلسات علاج متكررة، ثم
بعده بأربعة أعوام عادت اختهُ “مابي” مرة أخرى لإجراء المزيد من جلسات التحليل النفسي مع آنا ولكنه ما حدث هو
أنها تناولت جرعة زائدة من حبوب منوّمة لتموت منتحرة في منزل فرويد نفسه عام 1974.
وبالتالى صعد فيما بعد الستينيات أعداء عائلة فرويد نحو السلطة، وذلك لإعتقادهم بأن الوسيلة لبناء مجتمع أفضل
تكمن في ترك الذات البشرية حرة بلا قيود… فكرة التحرر تلك ستتمخض عنها أيضاً مشاريع، وسياسات، وأساليب
أخرى للتحكم بالعقلية الجمعية، مبدئياً عبر تغذيتها بالرغبات اللانهائية!
يتم الزج بالفرد في زنزانة ذات أسوار حديدية بعيدة عن معارفه القدامى وعن مصادر المعلومات وصور الحياة
\
العادية، ويترك هناك لفترة زمنية دون استجوابه، إضافة إلى أن أصدقائة ومقربيه عادة لا تواتيهم الجرأة ليسألوا عن
مكانه أو يشيروا إلى أنهم على معرفة به خشية التعرض للاعتقال والإستجواب، كما يتم إيهامه بأن بلاده لم تعد ترفع
صوتاً واحداً من أجله وان محبيه وأصدقاءه تخلوا عنه . ويساهم كل ذلك في عزله فيصبح عرضة للتعليقات
والتحذيرات المفزعة، ويشعر بأنه أصبح وحيداً في عالمه ولا يوجد بجواره من يستطيع أن يعاونه في محنته. بعد فترة
زمنية معينة، يبدأ الإستجواب في وقت يكون فيه الأسير قد وصل إلى حالة من اليأس والضعف، نتيجة القلق
والتفكير الطويل وما يصاحبه من ضغط فسيولوجي، بحيث يصبح عقله ضعيفاً غير قادر على إتخاذ القرارات،
ويسهل انقياده إلى الايحاءات التي تقدم اليه بواسطة الإجبار أو الحيلة.
الآثار الناجمة عن غسل الدماغ
هبوط القدرة الفكرية: الإنهاك الجسدي والضغوط النفسية التي يواجهها السجين، بالإضافة إلى النوم المتقطع،
التوتر، والفزع، تؤدي كلها إلى تشويش فكري وعدم مقدرة على التركيز في التفكير، أو بمعنى أدق فقدان القدرة على
التفكير بشكل جيد كالآخرين.
عدم القدرة على التلاؤم والتكيف: نتيجة لوضع الأسر والعزلة التامة للسجين وانقطاعه عن العالم الخارجي، فإن
بعض الأسرى لا يستطيعون التلاؤم والتكيف مع هذا الوضع.
الشعور بالذنب: تكرار أفعال الأسير عليه بشكل مستمر بالإضافة إلى إجباره على مراجعة حياته الماضية وتبرير
أفعاله الشخصية والسياسية من شأنه أن يثير لدى الأسير بعض الشعور بالذنب.تدمير الذات: تؤدي عملية الإذلال
والتحقير التي يخضع لها الفرد إلى التقليل من تقديره لذاته self esteem،
السلوك المشروط: تصبح معظم سلوكيات الفرد في المستقبل مشروطة بمثيرات خارجية وليست داخلية، بمعنى أن
الأحداث الخارجية هي التي تحرك سلوكه وليست الأفكار والمعتقدات التي يحملها، وذلك نتيجة الخضوع لأسلوب
الثواب والعقاب في تحديد الاستجابة المرغوبة من الغير مرغوبة أثناء فترة السجن.
آثار أخرى: الشعور الدائم بالخوف المرضي والشك والحيرة وعدم الثقة بالآخرين، والمعاناة من الوساوس المتسلطة
والأفعال القهرية، وفقدان خاصية التركيز والتفكير بطريقة متماسكة، والعجز عن التوجيه زمانياً ومكانياً، وهذيان
اضطهادي، وإحساس بالازدواجية وبفقدان الأعضاء، واضطرابات قلبية ونفسية وفقدان التوازن الحركي وارتجاف
وتقلصات في العضلات كما يحدث في أثناء الصدمة الكهربائية، وصعوبة في الاستغراق في النوم، واضطرابات
هضمية.
إن حماية أفراد المجتمع من الوقوع في براثن الأفكار المسمومة التي تحاول أن تعدل أو تغير من قناعات الأفراد
واتجاهاتهم من القضايا الشخصية والإجتماعية والوطنية يتطلب وقفة شجاعة وحازمة من أفراد المجتمع ومؤسساته
المختلفة كافة، كالمؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية التي تسعى إلى تسليحهم بالعلم والثقافة من أجل
المحافظة على قيمهم، وأهدافهم التي يسعون إلى تحقيقها، وهذه الأمور تعتمد على الإعلام الوطني الصادق الذي
يحمي الأفراد من الوقوع في فخ غسل الأدمغة من خلال تنوير أفراد المجتمع بالمحاولات التي تسعى إليها الدول
المعادية لتغيير أفكار الأفراد وقيمهم في المجتمع. إضافة إلى ذلك لابد من اطلاع أفراد المجتمع على الآليات
والأساليب الخاصة بعملية غسل الدماغ حتى لايقعوا ضحيتها في المستقبل.