منوعات

فتح القسطنطينية

كتب/احمدعثمان عوض

في مثل هذا اليوم بالتقويم الميلادي: 29 أيَّار (مايو) 1453م، فتح المُسلمون مدينة القُسطنطينيَّة
تحت الراية العُثمانيَّة، وبقيادة السُلطان الشاب ذي الأحد
وعشرين ربيعًا، مُحمَّد بن مُراد، الذي اشتهر مُنذ ذلك الوقت بِمُحمَّدٍ الفاتح.
شكَّل فتح القسطنطينيَّة خاتمة المُحاولات الإسلاميَّة لضم هذه المدينة إلى دولة الخلافة، والتي بدأت
مُنذ أوائل العهد الأُمويّ خلال خلافة مُعاوية بن أبي
سُفيان واستمرَّت خلال العهد العبَّاسي، إلى أن تكللت بالنجاح في العهد العُثماني. كما شكَّل هذا
الحدث (إضافةً إلى فتح منطقتين روميَّتين أُخريين لاحقًا) نهاية
الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، وإلى حدٍ أبعد الإمبراطوريَّة الرومانيَّة التي استمرَّت موجودةً بهيئةٍ روميَّة
شرقيَّة، بعد أن صمدت طيلة 1,500 سنة تقريبًا. كذلك
شكَّل الفتح العُثماني للقسطنطينيَّة ضربةً موجعةً للعالم المسيحي والبابويَّة الكاثوليكيَّة رُغم الاختلاف
والخِلاف المذهبي والعقائدي بين الكنيستين الشرقيَّة
الأرثوذكسيَّة والغربيَّة الكاثوليكيَّة، ذلك أنَّ المدينة كانت تُشكِّلُ عائقًا وحاجزًا أمام التوغل الإسلامي
في أوروپَّا، ولمَّا سقطت أصبح بإمكان العُثمانيين المضي
قُدمًا في فتوحاتهم دون التخوُّف من ضربةٍ خلفيَّة تُثنيهم عن أهدافهم.

 

كان لِلسُلطان الشاب مجموعة من الأسباب دفعته إلى فتح المدينة، منها ما هو ديني ومنها ما هو
اقتصادي واستراتيجي، ففي عهد هذا السُلطان انتعشت من
جديد سياسة الفُتُوح بعد أن ركدت لِفترة بِسبب حملة تيمورلنك المُدمِّرة على بلاد الأناضول، قبل
نحو 50 سنة، وكان الأباطرة الروم يتلاعبون بورقة
الطامعين بالعرش العُثماني بين الحين والآخر، فقد التجأ إلى البلاط البيزنطي العديد من بني عُثمان
الذين خرجوا عن طاعة السلاطين وادعوا لأنفسهم الحق
في العرش لأسبابٍ مُختلفة، فكان البيزنطيون يُهددون بين الحين والآخر بإطلاق هؤلاء ضدَّ
السلطنة العُثمانيَّة وإمدادهم بِجيشٍ روميٍّ لِتنصيبهم على العرش.
كما كان البيزنطيُّون المُحرِّك الأساسي للحملات الصليبيَّة ضدَّ المشرق الإسلامي، وكان العُثمانيُّون
قد توسّعوا في البلقان مُنذ عشرات السنين، وفتحوا جميع
البلاد المُحيطة بالقُسطنطينيَّة، ورأوا في تلك المدينة صلة الوصل بين بلادهم في الأناضول وبلادهم
في الروملّي، كما أنَّ السيطرة عليها تعني التحكم بحركة
الملاحة في المضائق البحريَّة الفاصلة بين البحرية الأسود والمُتوسِّط، وبقائها في أيدي الروم يعني
تهديد المُواصلات وعمليَّات نقل القوَّات العسكريَّة ما بين
آسيا وأوروبا، أمَّا فتحها فإنَّهُ كفيلٌ بتشديد القبضة العُثمانيَّة على الأراضي التي يحكُمونها، ويخلع
عليهم المهابة والعظمة في العالمين الإسلامي والمسيحي.
أضف إلى ذلك المغزى الديني الكبير لِفتح المدينة، فقد كان السُلطان مُحمَّد يطمح أن يكون صاحب
البشارة النبويَّة التي قالت بِفتح القُسطنطينيَّة: لَتُفْتَحَنَّ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ.

 

جهَّز السُلطان مُحمَّد جيشًا جرَّارًا وزوَّده بأحدث الأسلحة التي عرفها عصره، وفي مقدمتها المدافع،
وبينها مدفعٌ هائل جبَّار كان يُسمَّى المدفع الشاهاني، أي
الملكي، وقد صنعه مُهندسٌ مجري يُدعى أوربان آتى السُلطان وعرض عليه خدماته بعد أن لم
يتمكَّن مُلُوك أوروبا من تجميع المبالغ المطلوبة لِتصنيع مثل
هذا السلاح، الذي وصفه بعض المُؤرخين بكونه “أوَّل سلاح خارق في التاريخ”. حوصرت المدينة
يوم 5 نيسان (أبريل) 1453م، وحاول العُثمانيُّون
اقتحامها عدَّة مرَّات، لكنَّ الروم كانوا يردُّونهم عنها في كُل مرَّة، واستمات الإمبراطور البيزنطي
في الدفاع عن مدينته وطلب من البابا المدد والعون، وتعهَّد
له بِالخُضُوع تحت سُلطته الدينيَّة، وتوحيد الكنيستين الأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة حسب الرغبة
البابويَّة. وأرسل البابا وجمهوريَّتا جنوة والبُندُقيَّة مجموعة من
السُفن والجُنود لمُعاونة الروم في دفع المُسلمين بعيدًا عن المدينة، فنجحوا لِفترةٍ من الزمن، كما
أرسل البابا كردينالًا من طرفه أقام قدَّاسًا إلهيًّا في كاتدرائيَّة
آيا صوفيا على الطقس اللاتيني الكاثوليكي وأعلن وحدة الكنيستين. أمام هذا الأمر ثار الروم في
المدينة وهاجموا إمبراطورهم والبابويَّة، وكان زعيما
المُعارضة الكاهن جرجس (جاورجيوس) سكولاريوس وكبير الوزراء لوقا نوتارس، الذي قال
جُملته المشهورة: “أُفضِّلُ أن أرى في ديار الروم عمائم التُرك
على أن أرى تيجان الكرادلة [الكاثوليك]”.

 

أمام القصف المدفعي العنيف والمُتواصل أخذت أسوار القُسطنطينيَّة الجبَّارة، التي حمت المدينة طيلة 11 قرنٍ ونصف، تتخلخل وتتهاوى، وأرسل السُلطان
إلى الإمبراطور يُعلمه بأنَّهُ على استعداد لتأمين حياته وحياة نسائه وعياله وحاشيته ورجاله فيما لو سلَّم المدينة سلمًا، وأنَّ أحدًا لن يتعرَّض لأهلها بسوء، فردَّ
الإمبراطور قائلًا أنه يشكر الله لأنَّ السُلطان يجنح للسلم، لكنَّهُ لا يستطيع تسليم عاصمة الروم العتيقة وأكبر تاجٍ مسيحيٍّ في العالم بِسُهُولة، فإمَّا أن يحفظها
أو يموت دفاعًا عنها. وفي يوم 29 أيَّار (مايو) نادى السُلطان بِالهُجُوم العام، فانقضّ المُسلمون على المدينة ودخلوها وقضوا على أوكار المُقاومة فيها،
ودخلها السُلطان عند الظُهر وسار مع فرقة الإنكشاريَّة بِتشكلٍ نظاميٍّ مُبهر، حتَّى وصل ميدان آيا صوفيا حيثُ تجمَّع أهل المدينة وفي مُقدمتهم الرُهبان
والقساوسة، فأمَّنهم السُلطان على حياتهم وعلى دينهم ومُعتقداتهم، وأعطاهم نصف الكنائس وجعل النصف الآخر مساجد لِلمُسلمين، بما فيها كاتدرايَّة آيا
صوفيا الشهيرة، التي دخلها وأمر بِرفع الآذان في مذبحها، وصلَّى العصر بِداخلها. أما الإمبراطور فقد عُثر عليه ميتًا بين جنوده، واختُلف في تحديد كيفيَّة
موته، فقيل أنَّهُ قُتل على يد جُنديٍّ عُثمانيّ، وقيل أنه سُحق سحقًا تحت أرجل رجاله المُتدافعين، وبحسب هذه الراوية فقد أمر السُلطان بإحضار جُثمانه وسلَّمه
إلى الرُهبان الذي أقاموا له جنازة ملكيَّة كما جرت العادة عند وفاة أي إمبراطور سابق. وفي روايةٍ أُخرى أنَّ الإمبراطور لم يُعثر عليه أبدًا، ولا يُعرف كيف
مات أو إن كان هرب وعاش مُتخفيًا حتَّى وافاه الأجل.

 

اعلان
أرسل السُلطان الرسائل إلى السلاطين والأُمراء المُسلمين يُبشرهم بنصره بعد تمام الفتح، وفي مُقدمتهم الخليفة العبَّاسي المُقيم بالقاهرة والسُلطان المملوكي،
فأمر السُلطان بضرب البشائر بِقلعة الجبل وتزيين القاهرة ودمشق. وعمل السُلطان على إعادة الحياة إلى القُسطنطينيَّة، فدعا الكثير من أرباب المصالح
والحرف والتُجَّار المُسلمين إلى الإقامة بها، وأقرَّ السُكَّان الأصليين من الروم على أملاكهم، ودعا من هاجر منهم إلى العودة للمدينة للاستفادة من خبراتهم
التجاريَّة والثقافيَّة والعلميَّة، فعاد أغلبهم وأقاموا بجانب البطريركيَّة الأرثوذكسيَّة في المنطقة المعروفة اليوم باسم الفنار، وما زالوا إلى يومنا يُعرفون بِروم
الفنار. كما دعا السُلطان الكثير من الصربيين والأرناؤوطيين (الألبان) والأرمن واليهود إلى الإقامة بالمدينة، فأصبحت تضج وتنبض بالحياة من جديد بعد أن
كانت بحالةٍ يُرثى لها في أواخر العصر البيزنطي. كما دعم السُلطان انتخاب الراهب جرجس سكولاريوس ليكون البطريرك المسكوني وزعيم الأرثوذكس
الشرقيين في العالم، فاحتفل بتنصيبه على كُرسي البطريركيَّة بِنفس الأُبهة والنظام الذي كان يجري في العصر البيزنطي، وأعطاه فرقة من الإنكشاريَّة لتكون
حرسًا له، وأرسل له كتاب العهد والتعيين، وتعريب ما جاء فيه بحسب الدكتور أسد رستم: «كُن بطريركًا حرسك الله وسأوليك عطفي، وتمتَّع بِجميع الحُقُوق
التي مارسها سُلفاؤك».

 

وغيَّر السُلطان اسم المدينة وجعله “إسلامبول” أي تخت الإسلام أو مدينة الإسلام، على أنَّ تسميتا القُسطنطينيَّة وإستانبول كانتا مشهورتين ومُتداولتين أيضًا
طيلة العصر العُثماني حتَّى سنة 1922، ثُمَّ ثبتت إستانبول وحدها وما زالت مُستخدمة إلى يومنا.

الرسم للسلطان الفاتح وهو يدخل القُسطنطينيَّة، وهو في النطاق العام. للاطلاع على مقالة فتح القُسطنطينيَّة انظر الرابط في التعليق الأول.

اعلان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى