كنا لسة في حرب الإستنزاف، وكانت الحياة ناشفة جداً. في وقت عبد الناصر كان في تقشف فعلي لكي نكون مستقلين ولا نلجأ لأحد فكانت طوابير في كل مكان، طابور الجمعية علشان تاخد فرخة لو حظك كويس ولم تنفذ الكمية قبل دورك، طابور العيش على المخابز وأكشاك العيش وتأخذ الموجود، لكن في حدود معينة، مافيش أكثر من ١٠ أرغفة للشخص ، وبرضه حتى نفاذ الكمية.
لم نعرف الصابون المعطر، كل اللي كان موجود كان نابلسي شاهين. وكنا بنشوف التفاح في الصور والمجلات، بس كان في برتقال ويوسفي وموز … حاننهب؟ وفي الصيف عنب وتين ومشمش وخوخ وبطيخ وشمام، مافيش كانتالوب، ده دخل بعد كده بسنين. ولكن كان في مانجه .
كان في جبنه بيضة ورومي وفلامنك وقريش ومشّ ، بس لا توجد الجبن المصنعة المستوردة التي كنا نقرأ عنها. كان في مربة فراولة وتين وبلح من قها وإدفينا. كان فيه حلاوة طحينية وعسل وطحينة وقشطة من وش اللبن اللي بيجيبه اللبان كل يوم الصبح ومعاه كوز عبارة عن رطل، فعاوز كوز وللا كوزين؟. ولازم اللبن يتغلي قبل الشرب. ويترك ليبرد وبعدين تقشط القشطة من على الوش.
أما السمنة البلدي فكانت الزبدة الفلاحي تيجي مرة في السنة تدخل البيت ويكون يوم تسييح الزبدة إحتفالية عائلية. حلة كبيرة مهولة توضع فيها كرات الزبدة لتسييحها. وتفضل تغلي ويتشال من على وشها “المُرته”. كانت أحلى أكلة هى المرته بالعيش البلدي السخن.
كان البيض كله أبيض وكان بيتباع بالبيضة. مافيش حاجه إسمها كارتونة بيض.
لم يكن هناك معلبات إلا من صنع “قها” (وإسمها الدلع نُصّ ضحكة لأنها كانت تنطق أها) و”إدفينا” والشركتين مصريتين. لم نعرف المشروبات الغازية إلا في زجاجات، وعندما دخلت الكانز لمصر كانت عجبة. لكن طول عمرنا عندنا في الصيف جيلاتي وغزل البنات وفريسكا وذره مشوية وسوداني ولب وحمص. وفي الشتا بطاطا مشوية.
كان في بقال وجزار وكشك عيش ولم يكن لدينا سوبرماركت. لكن كان في جمعية تعاونية تِنَزِّل فيها الحكومة اللحمة والفراخ مرتين في الإسبوع. والجزار والفرارجي يبيعوا يومين في الإسبوع فقط لما يكون في لحمة أو فراخ. لم تكن هناك لحوم أو فراخ تكفي الجميع، على الأقل في المدن. كان الريف أحسن حالاً. كان في فلوس لكن لم تكن السلع متوفرة.
أثناء حرب الإستنزاف كان عندنا كل التركيز موجه للمجهود الحربي وكل المواد موجهة للرجال على الجبهة. كانت أكلة الفول والطعمية والكشري من أساسيات أي بيت، وحتى الآن لأنها أكلات محببة للذوق المصري. اللحوم المحفوظة التي كنا نعرفها كانت البسطرمة والسجق. غير منتجات الخنازير التي كانت موجودة للمسيحيين من مُرتَاديلّا وچامبون وسوسيس وبيكون.
كانت أسعار كل هذه المأكولات تحسب بالقروش وليست بالجنيهات. يعني لما تشتري حاجه والبياع يقولك السعر ٢٥ فهذا يعني ٢٥ قرشاً وليس ٢٥ جنيهاً. كان البقشيش المحترم للمنادي ٢ قرش صاغ ، الآن لما أعطيه ٥ جنيه بينظر لى بإحتقار!
وكنا عايشين كويس وكان همنا أولادنا اللي على الجبهة وهمنا الأكبر تحرير سينا. وكان الوضع غريب جداً لأن الشعب متحمس للحرب لأن ست سنوات مدة طويلة جداً لو مستني تحرر بلدك، وكنا في حالة حماس ووطنية جارفة ، لكن داخل كل واحد منا خوف لا ينطق به. حانقدر نواجه “الجيش الذي لا يقهر” كما أسمى نفسه الجيش الإسرائيلي؟ هل فعلاً جيشنا تسلح وتدرب وأصبح قادر على خوض معركة ضارية، يتخطى فيها القناة ويتسلق المانع الترابي ويتغلب على خط بارليف الحصين؟ وكانت الإحصاءات عن عدد الجنود المنتظر إستشهادهم في الساعات الأولى مرعبة ، لكن لازم نحارب، لازم نستعيد أرضنا. كان الشعب شغوف لبدء الحرب وفي نفس الوقت يقوي نفسه لإستقبال أخبار عن أعداد الشهداء. وفي قرارة نفسه يدعي لربه أن نعبر القناة. بس نعدي القناة ونسيطر على خط بارليف كفاية. بكده نكسر أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” ونرفع العلم المصري على جزء من أرض سيناء. شغوفين لبدء الحرب ومهيئين نفسياً لقبول الهزيمة لكن عازمين على تخطيها في حروب متتالية حتى ننتصر.
كان مفروض سنة ١٩٧٢ هي “سنة الحسم” لكنها مرت دون “حسم” وزادت من الإحباط. فكنا منتظرين أن سنة ١٩٧٣ ستمر أيضاً بدون “حسم” ولذا كان رمضان هذه السنة عادي، فيه الإحتفالات العادية من الإفطار والسحور بدون مكسرات لكن بالسوداني الاسواني بدل اللوز والفستق. وقمر الدين والخروب والكركديه والكنافة بالعسل والبسبوسة السادة ولقمة القاضي والقطايف بالسوداني او الجبنة أو اللحمة لو أكلة حلوة. والمسلسلات وفوازير رمضان واللمة والمعايدة والإطمئنان انه مافيش حرب في رمضان.
فكان يوم ٦ اكتوبر ، أو ١٠ رمضان مفاجأة مدوية بالنسبة للمصريين، فما بالك بالإسرائيليين الذين كانوا يحتفلون ب “يُم كيبور” ؟
في أول ما أذيع أننا “نرد على إعتداء”، وهذا عادي في سنين حرب الإستنزاف ، إعتبرناه يوم عادي في هذه الحرب التي لا تنتهي. لكن الموقعة طولت. وبدأ الكلام عن طائراتنا التي تضرب العدو في سيناء ، ثم أول بيان تكلم عن عبور قواتنا القناة تأكدنا انها الحرب التي طال إنتظارها. حالة من الفرحة العارمة مخلوطة برعب على أولادنا في الجبهة وإنتظار لمعرفة تطور المعركة، نحلم بوصول رجالنا للضفة الشرقية ومرعوبين من الثمن الباهظ من الأرواح التي سندفعها لذلك.
يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ كان يوم مرعب وغاية في الإثارة. نتتبع تطورات المعركة ونصلي من أجل سماع أن جيشنا عبر القناة ومرعوبين من سماع أن العدو تخطاها الى الضفة الغربية. ولكن عندما عبرنا ووصل جيشنا للضفة الشرقية ، بدأ الحجر الأسود الثقيل الكامن على صدر كل مصري ومصرية يتفتت ويذوب ، وبدأ قلبنا ينبض بالأمل الذي كنا نخاف التفوه به ، وزاد الحماس والوطنية ليس بالصراخ لكن بالعمل. لا أعرف كم مرة تبرعت بالدم حتى رفضوني القائمين على هذه التبرعات وقالوا لي الشهر القادم. لا أعرف كم من الكوفيات وأغطية الرأس والشرابات الصوفية التي أتميتها وبعثتها لجنودنا على الجبهة. كان وقت عمل وتبرع وصمت وصلاة. صلاة للحفاظ على شبابنا على الجبهة ، وصلاة ليتم الإنتصار ، وصلاة شكر وعرفان للرب اننا عبرنا.
سبعة واربعون عاماً … وكأنه حدث بالأمس . أتذكر كل المشاعر من فرحة عارمة لرعب على بلدي وناسي ثم الفرحة مره أخرى. عبرنا. رفعنا علم مصر على أرض الفيروز. عبرنا الأزمة النفسية لفقدان أرضنا وكرامتنا. عبرنا وحطمنا أسطورة عدو لا يقهر. عبرنا لمستقبل أحسن يمكن رفع رأسنا وبكل فخر نقول اننا مصريين وحررنا أرضنا.
تابعنا على