كتب سمير لوبه
أرهقته دروب الحياة بعد أن أنفق من سنين العمر خمسيناً مضت ، ولن تعود علا الشيب رأسه ، ورسمت الأيام والليالي بريشتها القاسية تجاعيدها على صفحة وجهه المرهق ، تغيب عنه عاطفته الجياشة بفعل التقادم ، تسوقه لقمة العيش ينصاع لها ، يبحر بعائلته ممسكاً بالمجداف وحده يكاد ينقصم ظهره ، تفتر جذوته كلما مضى عليها الزمن ، يحرص دوماً أن يروضها للتعايش في روتين حياتي ممل ، حتى جاء ذلك اليوم المتكرر المشاهد ليضع يده في جيبه يتلمس ما تبقى من المرتب ؛ فقد جاوز الشهر يومه العشرين وعليه أن يسدد الفواتير ؛ كي تسير المركب ، تزدحم رأسه بالأرقام ، وقد مسحت عيناه الأرض فلربما وجد حقيبة نقودٍ طالما حلم أن يجدها ، فترتسم على وجهه سعادة تتسارع لها ضربات قلبه ، فيهيم في خيال لذيذ لذلك اليوم الذي يغير حياته ويعيش حياة الترف والثراء ، فيتلمس بصيصاً زائفاً من سعادة سرعان أن تزول ليعود إلى واقعه الهذيل ، تسوقه قدماه وسط الزحام ، يتخبط جسده المثقل في المارة ؛ فقد تعودت قدماه لطول تمرسها طريق السوق الذي تنطلق إليه يومياً بعد انتهاء يوم شاق في الوظيفة ؛ ليشتري متطلبات أسرته ، يرهقه الزحام والضجيج ، فيلوذ لحلم حقيبة النقود فينال شيئا من سعادة كالسراب لا جود لها على أرض الواقع المؤلم ، لكنه يجد في حلمه ملاذاً من أعباء يومه الرتيب ، يعبر الطريق مروراً بحديقة مهجورة تتوسط الطريق افترشها الباعة ، فتقع عيناه على وردة يانعة نبتت في غفلة من أقدام عمياء قد دهست عودها الأخضر فبطشت به ، ولم تنل منها بعد ، يراها تناديه فتتحرك في عروقه مشاعر كاد أن ينساها لطول البُعد عنها وسط دروب الحياة القاحلة ، فينجذب إليها بدافع عاطفته الجياشة غير مبالٍ ، فما أن اشتم بقية من عبيرها حتى لمعت عيناه من تحت زجاج نظارته الطبية ، تتدفق الدماء الحارة إلى شرايينه توقد جذوة شبقه الذي فتر مع روتين أيامه اليابسة ، تنتابه الرغبة الجامحة أن يعجِّل ليطفئ غُلَّته ، يسرع وقد مدَّ يديه بحنوٍ يقطفها ، يضعها في جيب قميصه إلى جوار قلبه ؛ حتى يعود إلى بيته فيضعها في مزهرية أنيقة يسقيها من فيض شوقه الذي فتر لثقل الهموم ؛ فيمتع نفسه بأريجها الفواح ، ينطلق بها للسوق مشتبكا بجسده مع أجساد رواده المتهاوية ، وفي طريق عودته وقد تعلقت الأكياس المكدسة بأصابعه فاستحالت أنامله لزرقة ممزوجة بألمٍ قد اعتادت عليه في رحلته اليومية ، يعبر طريق الكورنيش ليركب ” الميكروباص ” يضع الأكياس جانباً ؛ لينفرد بوردته ، فلربما اشتم ولو قليلاً من عطرها ، وإذا بالميكروباص يتوقف أمامه فيحاول حمل أكياسه البلاستيكية المكدسة بمتطلبات أسرته ، فتواجهه صعوبة بالغة ، تشغل الوردة باله كما تشغل إحدى راحتيه ، لا يتمكن من رفع أكياسه والسائق متعجلاً :
– يا لا يا أفندي خلصنا
يتلمس وردته يرمقها بنظرة ممزوجة بالحسرة وبابتسامة باهتة يفتح راحته ليلقيها إلى البحر ؛ فيتمكن من ضم أكياسه المكدسة إلى صدره ، ويركب الميكروباص ، وقد تعلقت ناظراه بالوردة تتقاذفها الأمواج بلا هوادة ، متمتماً …..
– بتقول حاجة يا أفندي
محتضناً أكياسه ، يناوله الأجرة قائلاً :
– أبداً ولا حاجة .
صوت إحداهن مخترقاً كل الآذان ..
– على جنب يا أسطى .
بقلم سمير لوبه