لغتنا العربية مرتبطة ارتباطاً وجوديا بالأمة العربية والإسلامية وبالدين الإسلامي، فاللغة العربية هي الإرث الحضاري الثقافي الجامع للأمة، حيث انطلقت منها الحضارة الإسلامية التي سيطرت على قلب العالم القديم ومثلت القوة الكبرى المهيمنة لعدة قرون، حيث كانت أركان الدولة واعمدتها السياسية والعسكرية والثقافية والدينية بغالبيتها تنطق باللسان العربي ، وكان اللسان العربي هو لسان الفاتحين ولغة العبادة ودستورها القرءان الكريم.
وقد اهتمت الحكومات الإسلامية باللغة العربية والعناية بها منذ فجر الدولة المسلمة، فبدأت بإيجاد آلية التنقيط للحروف للتمييز ، ثم تأسيس علم النحو والإعراب لصيانة قواعدها من اللحن وضمان سلامة المعنى وتوضيح المقصد.
ثم كانت الحاجة لتعميد تلك القواعد وابرازها فكان وضع علامات الترقيم والفواصل.
ما يهمني اليوم بعد هذه المقدمة هو الحال المأساوي الذي نراه لواقع لغتنا العربية اليوم على الصعيد المحلي والعربي.
رغم اننا في عصر العولمة والتقدم والتكنولوجيا والتطور المعرفي في كل المجالات، إلا أنني أرى حالة انزواء مطردة تصيب لغتنا العربية، وأصبح التعاطي معها في أطر المجمعات اللغوية والمحافل الثقافية ومراكز الأبحاث ذات الصلة باللغة العربية ، وتناولها حصرا على الشخصيات الاكاديمية والنخب الاعلامية ذات التوجه المحافظ على رونق اللغة، بينما ينحدر القطيع يوما فيوم الى استخدام اللهجات العامية واللغة الدارجة في مختلف جوانب الحياة اليومية على الصعيد المجتمعي والرسمي.
لا ينكر أحدا أن اللهجات المحلية واللغة الدارجة لكل مجتمع او بلد هي جزء لا يتجزأ من إرثه وموروثه الحضاري وتمثل عمقاً ثقافيا لكل شعب يحمل تقاليده وحضارته .
لكن ليس معنى ذلك أن يتحول كل التوجه الثقافي للدولة والمجتمع في إطار دعم اللغة الدارجة والإسراف بشدة في الانتاجات الثقافية المكتوبة والمصورة والمنتجة من فلكلور (أغاني أوبريت زامل) او انتاجات تلفزيونية او اذاعية او صوتية مسلسلات مسرحيات برامج لقاءات نقاشات، وحتى على مستوى التعليم الأكاديمي.
وفي مقابل ذلك نرى بعدا عن الاهتمام بالنتاجات الفكرية والأعمال الفنية ذات الطابع الفصيح بل وأحيانا يتم تقديم وتفضيل المنتج العامي على الفصيح وهذه كااارثة.
صحيح أن اللغة العامية هي الاقرب الى العوام والأكثر تأثيراً في مجتمع يتكلم بتلك اللهجة، لكنها لا يمكن أن تتعدى الاطار والنطاق الجغرافي لتلك اللهجة الدارجة، ولذلك فإن الرسالة التي يريد صاحب الفكرة إيصالها تبقى حبيسة نطاق اللهجة المحصورة بتلك الفئة او المجتمع او البلد.
بينما لا يمكن الإطلاع عليها من قبل بلدان أخرى او مجتمعات أخرى او نخب ثقافية أخرى لا تعرف بعمق معاني ومفردات وأدبيات تلك اللهجة الدارجة.
امر مهم آخر أن الإسراف في استخدام اللهجات الدارجة وتأصيلها ومحاولة فرضها تنتج لنا جيلا بعيدا كل البعد عن لغته الأصيلة الفصحى، وبالتالي بعيدا عن التعمق المعرفي في جوانبها الدينية والثقافية، وجهلا مركبا في معرفة صائبة بالمعاني والدلالات والأبعاد لمختلف النصوص والعبارات خاصة الدينية والمعرفية والعلمية، وهذا يؤثر سلبا على مكانة ومركز هذا النشء علميا ومعرفيا بين أقرانه من الأمم.
لذلك أرى أن الاهتمام باللغة العربية وغرسها في نفوس وثقافة وعقول ومعرفة الجيل الناشئ هو من أساسيات النهضة لأمتنا وشعوبنا،
وأن الانحدار الى الإسراف في اشاعة ورسمنة اللهجة الدارجة يقود الى المزيد من الانطواء والعزلة والبعد عن مواكبة التطورات المتسارعة من حولنا في هذا العالم وفي كل المجالات.
فرفقاً رفقا بلغتنا الحبيبة لغة القرآن الكريم ولسان النبي الأمين.