منوعات

مثالب الولادة … ٍإميل سيوران بقلــم الأديب بالمصـــــرى …بقلم /د.طــارق رضـــوان جمعه

المذهب الوجودي هو تيارٌ فلسفيٌّ يرفعُ من قيمةِ الإنسان ويؤكِّدُ على أنَّه صاحبُ تفكيرٍ وحريَّةٍ وإرادةٍ واختيارٍ، ولا

يحتاجُ إلى أحدٍ كي يوجِّهه، كانت علاقة الفلسفة بالأدب منفصلة أحيانًا ومتَّصلة أحيانًا أخرى بناءً على عدَّة معطيات

متداخلةٍ أثَّرت على علاقتهما، كالأديان والأنثروبولوجيا الثقافية والمنطق، لكن فيما بعد استُخدمت المصطلحات

الفلسفية لنقد الأدب وصارت الفلسفة تسمى أدبًا.

 

إميل سيوران الفيلسوف والكاتب الروماني: كان للتشاؤمِ واليأسِ جذورٌ عميقة في مرحلة الطفولة لدى سيوران. أتقنَ

إميل سيوران اللغة الألمانية وهذا مكَّنه من إستيعاب فلسفة مانويل كانت، وشوبنهور، وهيدجر ونيتشه الذي كان له

الأثر الأكبر على فلسفة إميل سيوران. لكنه قرر أن يتخلَّى عن اللغة الرومانية ويبدأ الكتابة باللغة الفرنسية وقرر البقاء

في فرنسا، وتجنَّب الأضواء والشهرة بعدَ أن حصل على جائزته الوحيدة على كتابه “موجز التفكيك” المخصصة

للكُتاب الأجانب في فرنسا، وأعلن إعتزاله للوسط الثقافي نهائيًّا، حتى أنه لم يتزوَّج أبدًا لكنَّه أمضي بقيَّة حياته مع

رفيقة عمره أستاذة الأدب الإنجليزي سيمون بويه في باريس، وأصيب بالزهايمر في آخر عمره.

 

 

فلسفة إميل سيوران في الأدب تدور حول أشياء أساسية ثابتة أهمُّها مشكلة الولادة والسقوط في الزمن وهي مأساة

الإنسانية الأساسية عند إميل سيوران، وعلى حسب آرائه: “فسقوط الإنسان في التاريخ جعل الرجوع إلى الطمأنينة

الأولى شيئًا مستحيلًا، فنحن نحيا والشرُّ خلفَنا لا أمامَنا، وهذا السقوط يؤدِي بالضرورةِ إلى رُعبِ الصَّيرورَةِ، والجحيمُ

عندهُ هو المكانُ الذي يحكُمنا فيهِ الزَّمن إِلى الأبَد. ويقول أيضًا: “إذا كانَ للأمراضِ مهمَّة فلسفيَّة في هذا العَالمِ فستكونُ

البرهنةَ على أنَّ هذا الشعورَ بأبديَّةِ الحياة مجردُ وهمٍ”.

 

ثمَّ توالت كتبه “مقايسات المرارة”، ومن كتبه أيضًا التي ترجمت إلى اللغة العربية: “التاريخ واليوتوبيا”، “مثالب

الولادة”، “المياه كلها بلون الغرق”، “لو كان آدم سعيدًا”. كتاب مثالب الولادة كتاب فلسفي يضربُ فيه إميل سيوران

بمطارقِه دون أي تردُّد كل المسلَّمات واليقينيَّات والثوابت التي نحسبُها يقينيَّة ولا نتجرأُ على الخوض بها، سواء

المتعلقة بالفلسفة منها أو بالأديان أو بالشعر أو بالموسيقى أو المتعلقة بالأدب بشكلٍ عام، ويَطرحُ الكثير من التساؤلاتِ

حول تلك اليقينيات، وفيه يقول متسائلًا عن سر هذه الحياة التي مصيرها الموت لا محالة: “الولادة، أو قل كارثة

الولادة، هى مغامرةٌ عبثيَّةٌ لا جَدوى منها، لأنَّ مصير الإنسانِ مرتبطٌ بنهايةٍ حتميَّةٍ يغيبُ فيها وعيُه ووجودُه، ويكونُ

مصيرُه كمصيرِ أيِّ كائنٍ آخر، إذًا لمَ كلُّ هذا النواحِ؟ فإذا كانَ مصيرُ الإنسانِ هو الموتُ، ما قيمةُ الولادةِ أصلاً، هل

ولدَ الإنسانُ ليموتَ؟”. ويكثرُ إميل سيوران في هذا الكتاب من السخرية من الوجود ومن العدميَّة، فهو لا يعبر عنها

بالتشاؤم بل باللامبالاة فيقول: “أنَا لا أفعلُ شيئًا، هذَا متَّفقٌ عليه، لكنَّنى أنظرُ إلى الساعات تعبرُ وهذا أفضلُ من أن أسعَى إلى تأثيثِها”.

لذلك يقول: “اقترفتُ كلَّ الجرائم، باسْتثناء أنْ أكون أبًا، علينا نسيانُ أن نولَد”، فهو بشكلٍ أساسيٍّ يؤمنُ بأنَّ الكارثة

تكمنُ بالولادةِ وليسَت بالمَوت، وإحدى مقولاته في الكتاب: “ليتني أكون حرًّا، حرًّا إلى حدِّ الجنون، حرًّا مثل وليدٍ ميتٍ

 

اعلان

وكان إميل سيوران قد وصفَ نفسَه بأنَّه ذلك “البربريُّ من جبال الكاربات”، في إشارةٍ إلى الأسلوب والشَّكلِ التَّعبيريِّ الفطريِّ الذي دمغَ فِكْرَه وكتاباته، والذي جاء ممتزجاً بقوَّةٍ شعريَّةٍ عظيمةٍ واستثنائيَّةٍ. وقد كان هو نفسُه طالباً بدون مشاريع حياةٍ عدا القراءة والكتابة؛ ومجتمعِ المتشرِّدين الذين أحبَّهم لأنَّهم مُستثنون من التَّاريخ وحماقات التَّقدُّم؛ ومجتمعِ المومسات اللَّاتي كنَّ جاراتٍ له في الأبنيةِ المتداعيةِ التي عاش فيها، واللَّاتي تطفو صورُهنَّ في صفحاته كنموذجِ حياةٍ وفِكْرٍ يجسِّدنه من خلالِ “الإبتسامةِ المتعَبَة”، و”الإحساسِ بالمرارة” حيالَ السُّوق الكبرى التي هي هذا العالَم، ومن خلال كونهنَّ “المخلوقات الأقلَّ عقائديَّةً” اللَّاتي “يَقْبَلْن كلَّ شيءٍ ويرفضْنَ كلَّ شيء”، “المنفصِلات عن كلِّ شيءٍ والمنفتحاتِ على كلِّ شيء”.

من خلال كتاباته تظهرُ صورةُ عدميٍّ ماجنٍ، ومدنِّسٍ مُنتشٍ بغضبهِ اللَّدود الحارقِ والمُذيبِ للميتافيزيقيا، وللقيَم، وللمثل العليا، ولكلِّ الإرث التَّاريخيِّ والثَّقافيِّ لكوكبنا الصَّغير. لأنَّه هكذا كان يبدو له عالمُنا: قطعةً لا قيمةَ لها من “مادَّةٍ قاتمة. كان يقولَ أنه نذيرُ وبشيرُ الإنسانيَّةِ التي ما هي إلَّا ضحيَّةٌ لسقوط آدم وفقدان عدن. فنحن الآن سُجناء فردوسٍ مقلوبٍ، حديقةٍ خبيثةٍ ومُخيفةٍ، غير مأهولةٍ بالله، فيها ينتهي نهايتَه البائسةَ التَّاريخُ وشرُّه. إنفصالُه هذا عن العالم، عن التَّاريخ الذي بقي يتأمَّله من بعيدٍ، بيقينٍ لا يهزُّ طمأنينتَه شيءٌ، إنَّما يشكِّلُ الشَّفرةَ السِّريَّةَ لصفاء “منطقٍ” روحانيٍّ.

وإذا كان كاراكُو قد إنتحر بطريقةٍ مُبرمَجةٍ، فإنَّ إميل سيوران لم ينجح أبداً في ذلك فإنَّ سيوران أقلُّ منه قتامةً، وأقلُّ برودةً، وأكثر اختلاطاً بالحياة. لم يكن لديه مكتبةٌ حسنةُ التَّنظيم في منزله، بل كومةٌ من الأوراق والكتب المتناثرة في جميع أنحاء الغرفة و”الجاهزة للمحرقة”، كما كتبَتْ فريدغارد توما، صديقته الحميمةُ وكاتبةُ سيرته الذَّاتيَّة. ومع ذلك، فإنَّ تلك المحارق التي يحرق فيها الغربَ كلَّه وثقافتَه كلَّها لا تشبه في شيءٍ محارقَ النَّازيَّةِ أو محاكمِ التَّفتيش. إنَّ قلمَه، العذبَ والرَّهيبَ في آنٍ واحدٍ، يبقى على الدَّوام قلمَ مفكِّرٍ عبقريٍّ، حتَّى وإن كان يطيبُ له أن يقولَ إنَّه يطمحُ إلى البلاهة، إلى خواء البلاهة، وهو المفكِّرُ الذي ينبغي لنا البحثُ عن إرثه وعن بصمته الإبداعيَّة في الجانبِ السَّلبيِّ ذاتِهِ من كلامه.إنَّه فيلسوفُ الومضة، ومعلِّمُ الشَّذرة، فيلسوفٌ عديمُ المنهجيَّةِ

يعودُ إميل سيوران إلينا بصفته النَّبيَّ المخالفَ الذي يُنكرُ كلَّ الحقائقِ، المُنزَلَةِ منها والدُّنيويَّة فيقول “في كلِّ واحدٍ منَّا ينامُ نبيٌّ… عندما يستيقظ يكون الشَّرُّ قد زادَ قليلاً في العالَم”. ولكنَّ تصريحه هذا هو في الوقت نفسه انسحابٌ حتميٌّ ونهائيٌّ من مجتمع البشر، إن لم يكن من الطَّبيعةِ البشريَّةِ بأسرِها: “بعد أن قتلتُ النَّبيَّ في داخلي”، يتساءلُ سيوران، “كيف يمكن أن يبقى لي مكانٌ بين البشر؟”.

ربَّما من خلال هذا التَّشاؤم في الواقع، تبعثُ فينا صفحاتُ إميل سيوران، إلى جانب الحاجةِ القويَّة إلى التَّحرُّر من العالَم، ومن التَّاريخ وأعبائه، ومن ثِقَل الوجودِ ذاتِه، بل ولهذا السَّبب بالذَّات،- تبعثُ فينا إحساساً قويَّاً بالحريَّة: “يكفي أن أسمعَ أحدَهم يتحدَّث بإخلاصٍ عن المثاليَّة، والمستقبل، والفلسفة، أن أسمعه يقول “نحن” بنبرةٍ جازمةٍ، ويستشهدُ بـ”الآخرين” ويعدُّ نفسَه المؤوِّلَ لكلامهم، حتَّى أعدَّه عدوَّاً لي”.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى