بقلم د/ محمد بركات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
الذاكر لله عز وجل حي من الأحياء ،كما أخبر بذلك النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه:
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت» وفي رواية: «مثل البيت الذي يُذْكَرُ الله فيه، والبيت الذي لا يُذْكَرُ الله فيه، مثل الحيِّ والميِّت».
أي أن الذي يَذْكر الله -سبحلنه و تعالى- فقد أحيا الله قلبه بذكره وشرح له صدره، فكان كالحي بسبب ذكر الله -تعالى- والمداومة عليه، بخلاف من لا يَذْكر الله -تعالى-، فهو كالميت الذي لا وجود له. فهو حيٌّ ببدنه ميتٌ بقلبه. وهذا مَثَل ينبغي للإنسان أن يعتبر به وأن يَعْلَم أنه كلما غَفَل عن ذكر الله عز وجل، فإنه يقسو قلبه وربما يموت قلبه والعياذ بالله. قال -تعالى-: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).
ومن هذا الذكر الطيب المبارك:
{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ: مَن قال إذا أمْسى ثلاثَ مَرَّاتٍ: أعوذُ بكَلِماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ، لم تَضُرَّه حُمَةٌ تلك اللَّيلةَ. قال: فكان أهلُنا قد تَعَلَّموها، فكانوا يقولونَها كلَّ لَيلةٍ، فلُدِغتْ جاريةٌ منهم، فلم تَجِدْ لها ألَمًا }.
( ابن حجر العسقلاني ، الفتوحات الربانية
رقم: 3/95 ، صحيح)
(أخرجه مسلم (2709)، وأبو داود (3899)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10421)، وابن ماجه (3518) بنحوه، والترمذي (3604)، وأحمد (7898) باختلاف يسير)
، وقد بوّب عليه ابن السني في عمل اليوم والليلة: باب من يخاف من مردة الشياطين. وبوّب عليه ابن أبي شيبة: باب فِي الرَّجُلِ يَفْزَعُ مِن الشّيءِ. وبوّب عليه الهيثمي في غاية المقصد: باب ما يقول إذا رأى الشياطين.
فاعلم أيها المؤمن العاقل العابد الزاهد أن ذِكرُ اللهِ تعالى على كُلِّ حالٍ وفي كلِّ وقتٍ في الصَّباحِ والمساءِ حِصنٌ حَصينٌ، وحمايةٌ لكلِّ مُسلمٍ حريصٍ عليها، ويَقيهِ الشُّرورَ الظاهرةَ والباطنةَ.
ونجد في هذا الحَديثِ الشريف أن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول : “مَن قال إذا أمْسَى”، أي: عندما يحينُ وقتُ المساءِ، ووقتُها من بَعدِ صلاةِ العصرِ إلى أذانِ المغرِبِ، “ثلاثَ مراتٍ” مُكرِّرًا لهذا الذِّكرِ والدعاءِ.
“أعوذُ“، أي: أعتصِمُ وأستجيرُ، “بكَلِماتِ اللهِ”، وهي كُتُبه المنزَّلةُ وأسماؤُه الحُسنَى، “التاماتِ”، أي: الوافياتِ في أداءِ معانيها، أو الكاملاتِ التي لا نقْصَ في شيءٍ منها ولا عيبَ، أو النافعاتِ للمُتعوِّذِ بها، الحافظاتِ له من الآفاتِ.
، وإنَّما وُصِف كلامُ اللهِ بالتمامِ؛ لأنَّه لا يكونُ في كلامِهِ شيءٌ من النَّقصِ والعيبِ، كما يكونُ في كَلامِ الناسِ، وقيل: إنَّ ذلك صِفةٌ يُراد بها المدحُ والثناءُ ولا يُرادُ بها الفَرْقُ بين مَوصوفينِ: أحدُهما تامٌّ، والآخَرُ ناقصٌ.
؛ لأنَّ كلماتِ الله تعالى لا نَقصَ في شيءٍ منها بوجهٍ من الوُجوهِ أصلًا “من شرِّ ما خَلَقَ” وهو عامٌّ لكل شيءٍ مخلوقٍ.
، “لم تضُرَّه حُمَةٌ تِلك اللَّيلةَ”، أي: لن يَضُرَّه السمُّ، أو لَدْغةُ كلِّ ذي سُمٍّ، كَالحيَّةِ والعَقربِ، وإذا أُصيبَ لم تَضُرَّه الإصابةُ.
، قال سُهيل بن أبي صالحٍ -أحدُ رُواةِ الحديثِ- كما في روايةِ الترمذيِّ: “فكان أهلُنا قد تَعلَّموها، فكانوا يقولونها كلَّ ليلةٍ؛ فلُدِغتْ جاريةٌ منهم فلم تَجِدْ لها ألَمًا”، أي: لم تَشعرْ بوَجعٍ أو أَلَمٍ من هذا السمِّ؛ لقولهم هذا الذِّكرَ.
، وفي الحديثِ: أهميةُ أذكارِ الصَّباحِ والمساءِ في حِفظِ العبدِ المؤمنِ.
وفيه: حِرصُ الصحابةِ والتابعين على فِعْلِ ما حثَّهم عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
(أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ )
فهكذا يلجأ الإنسان إلى خالقه عز وجل، فهو الذي يحفظ الإنسان من كل سوءِ ومكروه، ومفاتيح الخير كلها بيده وأبواب السعادة كلها وِفق ما أراد، ولا رادّ لحكمه وقضائه، فهو الذي خلق الإنسان ابتداءً ويعلم ما يحيط به من مكائد الشيطان؛ لذلك كان الدعاء النبوي بأن يسعيذ الإنسان بكلمات الله من كل شرٍ في هذا الكَوْن.
فاعلم أن العبد المسلم إذا قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ فإنه بذلك قد اقتفى أثر نبيه –صلى الله عليه وسلم- فقد ورد عن غير واحد ومنهم الإمام أحمد –رحمه الله- من حديث عبد الرحمن بن خنبش التميمي قال :
(إِنَّ الشَّيَاطِينَ تَحَدَّرَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَوْدِيَةِ، وَالشِّعَابِ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ بِيَدِهِ شُعْلَةُ نَارٍ، يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ، قَالَ: “مَا أَقُولُ؟ “قَالَ: “قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَذَرَأَ، وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ، إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ”.
قَالَ: فَطَفِئَتْ نَارُهُمْ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى).
“وأعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق”
يحتوي على كثيرٍ من المعاني الراقية وكثيرٍ من الأمور التي تُحصن الإنسان وتحفظه في دينه ودنياه، فالإنسان في هذه الحياة الدنيا ما عليه إلا أن يسير وِفق ما جاء به الشرع والسُنّة وسيهدأ بالًا ويرتاح فؤاده، ويتضمن الحديث العديد من المعاني والقيّم :
أعوذ: وهو دعاء يقوله المسلم لطلب الحماية والوقاية من الله تعالى لحفظه من شرٍ مُحدق، وهو في معناه اللفظي يعني: أحتمي، ألوذ، أستنجد.
بكلمات الله: وقد فسرها العلماء بأنها الكلمات الكوْنية التي يأمربها الله تعالى لتدبير شئون الخلق والعباد؛ وبذلك فإن الأمر سيكون بيد الله تعالى ابتداءً وانتهاءً وما على العبد إلا استشعار ذلك المعنى لتمام حفظه من قِبل مولاه عز وجل.
التامات: أي الكاملات التي ليس فيهن نقصٌ أو عيب.
من شر ما خلق: أي من كل مخلوقٍ فيه شر سواءً كان إنس أوجنّ أو غيرذلك.
وذرأ: أي خلق، أي كل ما قد خلقه الله تعالى، ومنها قوله تعالى:” قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ” (الملك / 34 )
وبرأ: تعني أيضًا خلق، ومنها اسم الله تعالى (البارئ)، ومنها قوله تعالى:” فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ” (البقرة / 54 ) .
وكذلك ضرورة الإلتجاء إلى الله تعالى في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ يتعرض لها الإنسان في حياته من مُعوقات أو مشاكل أوهمٌ قد ألمّ به، فهو سبحانه وتعالى القادر على أن يصرفه عنه ويُفرج عنه ما هو فيه.
ثم إن الاستعاذة بكلمات الله تعالى من الأدعية التي تُحبط عمل الشيطان، فهو يتربص بالإنسان ليل نهار ويكيد له المكائد ويريد أن يوقعه في الخطأ والأذى النفسي والبدني على طول الأوقات ولا منجاة له إلا بدعائه الذي يتضرع من خلاله لمولاه عز وجل.
ودائماً عليك استحضار النية حسنة في دعاءك تجزي بها الخير كله ويباعد عنك بها الشر كله.
وعليك بتتبُع أثر النبي –صلى الله عليه وسلم- من أهم ما يأخذ به الإنسان بيد العزم في هذه الحياة الدنيا، حيث لم تترك السُنّة شاردة ولا واردة إلا وأحصتها وأوردتها.
و دعاء اعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ يُحصن الإنسان ويحميه من كل سوء، وليس أدلّ على ذلك من نزول جبريل –عليه السلام- لتلقين النبي –صلى الله عليه وسلم– هذا الدعاء لما فيه من أهميةٍ خاصة.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً وكن بنا وبالمؤمنين رؤوفا رحيما.
تابعنا على