بقلم د/ محمد بركات
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمن ينظر ويحقق ويدقق تصله من المعاني ما لا يصل لغيره، والإنسان بطبعه يحب البحث في الأشياء العميقة فيما يخص الخلق والخالق ، وهذا الكون الواسع الفسيح مترامي الأطراف.
، وقديماً سُئل أعرابي عن دليل وجود الصانع فقال :
البعرة تدلّ على البعير، وآثار الأقدام تدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدلّ على العليم الخبير ؟! .
ومن الآيات القرآنية العظيمة في الدعوة إلي هذا النوع من الاتصال والمعرفة والتحقيق ، قول الله تعالى:
﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ . وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ .تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ . وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ . وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ .رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾
[سورة ق، الآيات: 6 – 11].
ومناسبة هذه الآيات: أنه لَمَّا بيَّن الله أنهم أنكروا البعث واستبعدوه، وذكر تمامَ قدرته على البعث بالطريق العلمي، شرعَ في بيان الدليل المادي الحسي على إمكان البعث؛ ليدفع بذلك في نحر استبعادهم.
، وانظر في مفردات اللغة، أيها العاقل اللبيب، سبحان من هذا كلامه وآياته:
(ينظروا) يُبصروا، (بنيناها) رفعناها بلا عمد، (زيَّنَّاها) جمَّلْنَاها وزخرفناها يعني بالكواكب، (فروج) فتوق وشُقوق، (مددناها) بَسَطْناها، (ألقينا) وَضَعْنا، (رواسي)؛ أي: جبالًا ثوابت، (زوج) نوع وصنف، (بهيج)؛ أي: حسن المنظر بهيج أي: يسر من نظر إليه، (تبصرة)؛ أي: آية مستمرة منصوبة أمام أبصارهم، (ذكرى)؛ أي: آية متجددة مذكرة عند التناسي، (منيب) راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه، (مباركًا) كثيرة المنفعة.
، (جنات)؛ أي: بساتين وأشجار ذات ثمار، (الحصيد) فعيل بمعنى مفعول، والمراد به كل ما يحصد ويقطع بالمنجل من الزرع والنبات الذي له حب، (باسقات) بالسين أي: طوالًا، جمع باسقة، (باصقات) لغة في باسقات، وهي لغة بني العنبر من تميم، يُبدلون السين صادًا إذا وليتها قاف أو طاء أو عين أو خاء، (طلع) هو ما يبدو من ثمرة النخل في أول ظهورها، (نضيد) متراكم بعضه فوق بعض، (أحيينا) بعثنا وحركنا وأنمينا، (ميتًا) جامدة هامدة، وتذكيره باعتبار المكان، وقيل: إن ميتًا يستوي فيه المذكر والمؤنث، (الخروج) البعث من القبور.
ثم انظر إلي جماليات اللغة وتراكيبها، سبحان من هذا كلامه وآياته وقرآنه:
قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم) تجد الاستفهام فيه للتوبيخ، والفاء للعطف على محذوف تقديره: أعموا فلم ينظروا، وقوله: (فوقهم) منصوب على الحال من السماء وهي حال مؤكدة، وقوله: (كيف بنيناها) كيف منصوب بـ(بنيناها) على الحال، وجملة (بنيناها) بدل اشتمال من السماء، وقوله: (وما لها مِن فروج) الواو للحال، وقوله: (والأرض مددناها) معطوف على موضع (إلى السماء) المنصوب بـ(ينظروا)، والتقدير: (أفلم ينظروا الأرض)، ويجوز أن ينتصب على الاشتغال على تقدير: (ومددنا الأرض) وهو أظهر، وقوله: (تبصرة) بالنصب مفعول لأجله، والعامل فيه (بنيناها)، و(ذكرى) معطوف عليه أي: للتبصرة والتذكير، وقيل: منصوبان بفعل مقدر من لفظهما؛ أي: بصرناهم تبصرة، وذكرناهم ذكرى، وقيل: هما حالان من فاعل بنينا ومددنا أي مبصرين ومذكرين، أو حال من المفعول أي ذات تبصرة وتذكير لمن يراها، وعلى قراءة الرفع هي: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي تبصرة وذكرى.
، ويجوز أن يكون قوله: (تبصرة) راجعًا إلى السماء، وقوله: (ذكرى) راجعًا إلى الأرض، فالسماء للتبصرة، والأرض للتذكرة.
،ويجوز أن يكون كلُّ واحد من المصدرين موجودًا في كل واحد من الأمرين.
، وقوله: (لكل عبد منيب) متعلق بكل مِن المصدرين، وقوله: (وحب الحصيد) فيه حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، للعلم به، والتقدير: وحب الزرع الحصيد، وإنما خص الحب بالذكر؛ لأنه المقصود المهم بالإنبات، وقوله: (باسقات) حال من النخل مقدرة؛ لأنها وقت الإنبات لم تكن طوالًا، وإنما خص النخل بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها؛ ولذلك شَبَّهَ رسول الله ﷺ المسلم بها، ولأنها أيضًا مع فرط طولها دقيقة الجذور جدًّا، فكانت لذلك آيةً خاصةً، وقوله: (لها طلع نضيد) الجملة: حال من الضمير في باسقات على التداخل، أو حال أخرى من النخل، وقوله: (رزقًا للعباد) يجوز أن يكون قوله: (رزقًا) مفعولًا لأجله، والعامل فيه (أنبتنا)، و(للعباد) صفة له، ولم يقيد العباد بوصف الإنابة كما تقدم في قوله: (لكل عبد منيب)؛ لأنَّ الرِّزق لعموم العباد، أما التبصرة والتذكرة فلا ينتفع بها إلا المنيبون، وقيل: إن (رزقًا) مصدر مِن معنى أنبتنا؛ لأن النبات رزق، وقوله: (كذلك الخروج) كذلك (خبر مقدَّم) والخروج (مبتدأ مؤخر)، وإنما قدم الخبر لإفادة الحصر، ومَرجعُ الإشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء.
وتلحظ بعقل الواعي ووعي العاقل المتفكر والمتدبر لآيات الله في كونه:
أَعَمُوا فلم يمدُّوا أعينَهم إلى السماء حالة كونها فوق رؤوسهم بحيث يسهل النظر إليها، فلم ينظروا إلى كيفية بنائها وعجيب صنعها، وجميل زخرفتها؟
، والحال أنها خالية من الصدوع والشقوق، مع ضخامتها واتساعها وارتفاعها بغير عمد، وكذلك أَغَفَلُوا فلم ينظروا إلى الأرض؟!
، لقد بسطناها بقدرتنا وقوتنا_الله تعالي _ووضعنا فيها جبالًا ترسيها حتى لا تميدَ بالناس، وأنبتنا فيها من كل نوعٍ يُدخلُ البهجة والسرور على مَن ينظر إليه، لقد فعلنا ذلك ليكون آية مستمرة منصوبة أمام أبصارهم، وآية متجددة مذكرة عند التناسي، ينتفع بها كلُّ عبد صالح، وأكثرنا من إنزال الماء العظيم المنافع إلى الأرض، فأنشأنا به بساتينَ، وأشجارًا كثيرة، وحب الزرع الذي يحصد ويقطع بالمناجل وتنال منافعه، وأيضًا أنبتنا النخل حالة كونها طوالًا، وحالة كونها لها ثمرٌ في أول ظهوره متراكم ملتصق بعضه ببعض بداخل الكفرى كحب الرمان، لقد فعلنا هذا لأجل رزق العباد، وبعثنا بهذا الماء بلدة جامدة هامدة، كذلك بعث العباد من قبورهم يوم القيامة.
و توقفنا علي عدة أمور غاية في الأهمية:
أولاً: وجوبُ النظر والتفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن .
ثانياً: لا خير فيمن ينظر دون وعي ، وفي ذلك توبيخُ من لم ينتفع بنظره.
ثالثاً :أن السماءَ مبنيةٌ في تمام وجمال البناء.
رابعاً :وأنها مُحكمةٌ في غاية الإحكام.
خامساً :نصبُ الآيات الدائمة والمتجددة أمام الأبصار.
سادساً :لا يتذكر إلا المنيبون أهل الوعي والرشاد.
سابعاً: وفي النخيلِ آيةٌ ظاهرةٌ على قدرة الله.
ثامناً : وأن رزق المؤمن والكافر على الله.
تاسعاً: آيات الله عظيمة في إحياء الأرض الجامدة الهامدة بسبب المطر آية واضحة للقدرة على إحياء الموتى.
عاشراً : تهوينُ أمر البعث.
وأخيراً فعلي العاقل وهو من يري ويتفكر أن لا تفوته هذه الآيات بل تزيده قرباً وهدايةً إلي الله .