القسم الديني

مولد النبي ﷺ  ميلاد النور الذي غيّر وجه التاريخ

 

كتبت/د/ شيماء صبحي 

في مثل هذه الأيام المباركة، يقف المسلمون في شتى بقاع الأرض متأملين عظمة مولد النبي محمد ﷺ، خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي جاء للعالمين رحمة وهدى ونوراً. لم يكن مولده حدثاً عادياً، بل كان بداية لحقبة جديدة في التاريخ الإنساني، حقبة تشرق بالعدل بعد الظلم، وبالنور بعد الظلمات، وبالإيمان بعد الجاهلية.

يقول الله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ۝ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة: 15-16]. وقد فسّر العلماء النور هنا برسول الله ﷺ، فهو النور الذي أضاء للبشرية طريق الهداية.

 مولده الشريف وبداياته

وُلد النبي ﷺ يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل، العام الذي حاول فيه أبرهة هدم الكعبة، فحماها الله بجيش من الطير الأبابيل. ومنذ مولده ظهرت دلائل الخير والبركة، فقد روي أن أمه آمنة بنت وهب قالت: “رأيت نوراً خرج مني أضاء لي قصور الشام”.

وقد صحّ عنه ﷺ قوله حين سُئل عن صيام يوم الاثنين: “ذلك يوم وُلدت فيه، ويوم بُعثت فيه، ويوم أُنزِل عليّ فيه” (رواه مسلم)، ما يدل على أن يوم مولده كان يوماً مميزاً في حياته الشريفة وفي تاريخ الرسالة.

حياته المباركة ودعوته

نشأ النبي ﷺ يتيماً، فكفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب، فشبّ متحملاً أعباء الحياة، وعُرف بين قومه بـ”الصادق الأمين”. عمل في التجارة، وتزوج من السيدة خديجة رضي الله عنها التي كانت سنداً له في حياته ودعوته.

وفي الأربعين من عمره، نزل عليه الوحي في غار حراء، فبدأت رحلة النبوة التي واجه فيها صنوف الأذى والابتلاء، لكنه صبر وثبت، حتى قال الله تعالى:

﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُو۟لُوا۟ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35].

كانت دعوته قائمة على التوحيد والرحمة، وقد لخّص رسالته في قوله: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (رواه مالك). وكانت حياته كلها ترجمة عملية للقرآن، حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: “كان خُلُقه القرآن” (رواه مسلم).

 الصحابة والجيل الأول

كان للصحابة الكرام دور محوري في نصرة الدعوة، فقد قدّموا أرواحهم وأموالهم فداءً للنبي ﷺ ولدين الله. وقف أبو بكر الصديق بجواره في كل المواقف، وسانده عمر بن الخطاب بحزمه وقوته، وجاد عثمان بن عفان بماله، وبذل علي بن أبي طالب نفسه دفاعاً عنه.

وقد عاشوا معه أعظم الأحداث: الهجرة، بدر، أحد، الأحزاب، والفتح، فكانوا الجيل الذي تخرّج في مدرسة النبوة، ورفع راية الإسلام عالية، حتى وصل إلى مشارق الأرض ومغاربها.

 فضل الاحتفاء بالمولد

إن ذكرى المولد النبوي ليست مجرد مناسبة تاريخية، بل هي فرصة للتأمل في حياة أعظم إنسان عرفته البشرية. فقد كان ﷺ يخصص يوم الاثنين للصيام شكراً لله على نعمة مولده وبعثته، وفي ذلك إشارة إلى استحباب شكر الله على النعم العظيمة.

وقد أجمع العلماء أن إظهار الفرح بذكرى المولد جائز ما لم يُخالطه منكر، بل هو من باب شكر الله على نعمة وجود النبي ﷺ. يقول الإمام ابن حجر العسقلاني: “أصل عمل المولد بدعة، لم تُنقل عن السلف، ومع ذلك فهي بدعة حسنة، لما فيها من إظهار الفرح بميلاد النبي ﷺ.”

 دلالات المولد في عصرنا

مولد النبي ﷺ ليس مجرد ذكرى عاطفية، بل هو دعوة لإعادة قراءة سيرته بعمق، لنستلهم منها القيم التي فقدها العالم اليوم: العدل، الرحمة، الصدق، والإيثار. ففي زمن كثرت فيه الحروب والأحقاد، يبقى المنهج النبوي هو الحل الأمثل لإصلاح القلوب والمجتمعات.

ولذلك قال الله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأحزاب: 21].

 خاتمة

إن مولد النبي ﷺ هو ميلاد النور والرحمة، وإذا أردنا أن نُحيي هذه الذكرى كما ينبغي، فلا يكون ذلك بالاحتفال الشكلي فقط، وإنما بالتمسك بسنته، وإحياء أخلاقه، والسير على نهجه. فهو القائل: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي” (رواه الحاكم).

فالمولد النبوي دعوة متجددة لكل مسلم أن يجدد عهده مع الله، وأن يجعل من حياة النبي ﷺ منهجاً ودستوراً لحياته.

مقالات ذات صلة