القسم الديني

اذكروا المنعم تدم لكم النعم

بقلم د/ محمد بركات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
من العبادات المهجورة التي لا يفطن لها كثير من الناس عبادة مهمة مرجوة وهي ذكر النعم فهي سبيل الزيادة والخير العميم .
ولتعلم أيها المؤمن العاقل أن الحسد هو من قبيل سوء الأدب مع الله.
فالواجب عليك أن لا ترهق نفسك بالمقارنات لأنه كلما اتسعت عيناك ضاق صدرك وارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس .
فلقد أنعم الله عز وجل عليك أيها الإنسان بنعم لا تعد ولا تحصى، ومن الطبيعي أن تتجه المشاعر والقلوب للمنعم سبحانه وتعالى بالشكر، والألسنة بالحمد على هذه النعم المتوالية بتوالي الليل والنهار، ولكن الواقع المشاهد يخبرنا بعكس ذلك، فما أقل شكر الناس لربهم، “إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون”
[سورة يونس، الآية:60].
ولعل من أهم أسباب الانصراف عن شكر الله عز وجل: الغفلة عنه سبحانه، وعدم إدراك حكم وقيمة نعمه علينا.
، ولذلك يرفل الناس وينغمرون في نعم لا تحصي ولا تعد ومع ذلك لا يشعرون بنعمة العطاء هذه إلا بعد الفقد ، ولذلك من دعاء الصالحين المأثور ” اللهم إنا نعوذ بك من الفقد بعد العطاء”
ولأن الله عز وجل يحب عباده ويريد لهم الخير – مع غناه عنهم – فلقد أرشدهم في كتابه إلى عبادة يعودون من خلالها إلى حظيرة الشكر، ألا وهي عبادة “ذكر النعم”، قال تعالى: “يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم” [سورة فاطر، الآية: 3].
فبممارسة هذه العبادة يسير المرء في طريق الفلاح “فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون” [سورة الأعراف، الآية: 69]
، ويكفي في بيان أهميتها وفضلها ما جاء في حديث الملائكة السيارة التي تلتمس مواضع الذكر فإذا وجدوا واحدًا منها بعثوا بالطوّافين منهم إلى الله تبارك وتعالى فيقولون:
{ربنا أتينا على عباد من عبادك، يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – ويسألونك لآخرتهم ودنياهم. فيقول تبارك وتعالى: غشوهم رحمتي}
(رواه البزار).
ولذكر نعم الله عليك فوائد لا تحصى ولا تعد
فهذه العبادة المهجورة، والتي نسيها الكثير من الناس، لها فوائد تربوية عظيمة تعود بالنفع على الفرد في الدنيا قبل الآخرة، ومن ذلك:
(أن ذكر النعم طريق للشكر):
فعندما يجلس المرء مع نفسه أو مع أهله أو مع إخوانه ويتذكر نعم ربه عليه فإن هذا من شأنه أن يستثير مشاعر الحب والامتنان تجاه المولى عز وجل، فالقلوب قد جبلت على حب من يحسن إليها.. وباستثارة تلك المشاعر تتولد داخل الإنسان طاقة تدفعه للتعبير عن هذا الحب بانكسار في القلب، وحمد باللسان، وطاعة بالجوارح.
واعلم أنه قد تشتد الحاجة لاستثارة تلك المشاعر والقيام بواجب الشكر عند ورود النعم الكبيرة على العبد؛ لأنه في مثل هذه الأوقات تحاول النفس أن تخلع رداء العبودية وترتدي رداء الشموخ والفخر والمباهاة مما قد يؤدي إلى مقت الله وغضبه عليه، من هنا كان التوجيه التربوي للصحابة – رضوان الله عليهم – بتذكر نعم الله عليهم بعد انتصارهم على المشركين في بدر، “واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون” [سورة الأنفال ، الآية:26]
(ومن فوائد ذكر النعم أنها تذكرنا بحق الله علينا) :
فالله عز وجل أعطانا نعما لا تُعد ولا تُحصى… هذه النعم لها مقابل ينبغي أن نُقدمه ألا وهو الشكر، “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون” [سورة النحل، الآية:78]
، ومن أهم صور شكر النعم: العبادة “يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين* يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين” .
[سورة آل عمران، الآيات: 42 ، 43]
فإن كان الأمر كذلك، فلا بد للعبد أن يعرف الحق والدين المستحق عليه لربه أولا ليدرك حجم الشكر المطلوب منه، ولا يمكنه معرفة ذلك إلا من خلال عد وإحصاء نعم ربه عليه – قدر المستطاع – فإن فعل ذلك ونظر إلى حجم هذه النعم، ثم تأمل حجم ما يقدمه من طاعات علم أنه هالك لا محالة إن طالبه الله بحقه عليه، وهذا من شأنه أن يجعله دائما منكس الرأس أمام ربه، مستصغرا ما يقدمه من أعمال مهما كان حجمها، خائفا من عذابه سبحانه، سائلا إياه الجنة استجداءً لا استحقاقا.
ولك أن تتأمل في صورة سردية توضيحية حال موسى – عليه السلام – وقد نظر إلى حق ربه أولا قبل أن ينظر إلى عمله، فقال: يا رب كيف لي أن أشكرك، وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازى بها عملي كله، فأتاه الوحي:
يا موسى الآن شكرتني.
( ذكر النعم يدفعنا للاستغفار بعد القيام بالطاعة)
فليس ذكر النعم لمجرد الإعجاب بها – كما يقع في ذلك البعض – فعندما يدرك العبد حق ربه عليه فإنه يستصغر دوما ما يقدمه من طاعات، بل يستغفر الله بعد القيام بها؛ فهي في نظره لا تليق بجلاله ولا توفي ولو جزءا يسيرا من حقه عليه كما في دعاء (سيد الاستغفار) : أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي.
فإن كنت في شك من هذا فتأمل معي خطاب الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وقيامه بأداء الرسالة خير قيام: “إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا” -ما المطلوب عمله؟- “فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا” [سورة النصر]
( ومن فوائد ذكر النعم أنها علاج للكبر والطغيان وهما آفتان عظيمتان)
نعم فأنت عندما تتوالى النعم على العبد فإن نفسه تعمل على دفعه للتكبر على الآخرين والشعور بالأفضلية عليهم بها.. من هنا كان ذكر النعم والتذكير بفضل الله علاجا فعالا لمثل هذه الحالة كما فعل موسى عليه السلام مع بني إسرائيل عندما بدأت أمارات الطغيان تظهر عليهم، “وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد” {سورة إبراهيم، الآية: 6، 7}.
(ومن فوائد ذكر النعم إزالة ما عساه من جحود العبد وعدم رضاه عن حاله) ، فعندما ينظر المرء إلى ما عند الآخرين ويتعامى عن خير الله عليه، فإن هذا من شأنه أن يجعله ساخطا على وضعه، غير راض عن ربه.. قال صلى الله عليه وسلم: “إذا أحب أحدكم أن يعلم قدر نعمة الله عز وجل عليه، فلينظر إلى ما هو تحته، ولا ينظر إلى ما هو فوقه”.
(ومن جميل ذكر النعم يورث حب الله في القلب)، فالإنسان عبد الإحسان، وكلما تذكرنا نعم الله عز وجل علينا ازدادت مشاعر الحب تأججا في القلب ومن ثم الشوق إليه سبحانه.. فإذا ما ترجمنا هذه المشاعر بكثرة حمده، والثناء عليه، ومناجاته بهذه النعم، وشكره عليها؛ فإن مشاعر الحب في القلب تزداد وتزداد اتجاها له سبحانه وتعالى مما يدفعنا إلى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بسهولة ويسر وتلقائية دون الحاجة إلى المجاهدة العظيمة للنفس في ذلك.
7- وأخيرا: ذكر النعم يورث الشكر، وبالشكر كما نعلم تقيد النعم وتزيد، “لئن شكرتم لأزيدنكم”، قال بعض السلف: حقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه.
وذكر الحسن البصري: أكثروا ذكر النعم فإن ذكرها شكرها.
فإن كانت هذه بعض ثمار القيام بهذه العبادة، فهل لنا بعد ذلك أن نزهد فيها؟!
فلتكن حياتنا وأحوالنا من الآن في ممارسة عبادة “ذكر النعم”، ولنجلس مع أنفسنا ومع من حولنا كلما سنحت الفرصة، فنتذاكر نعم ربنا علينا: في سبق فضله لنا، وعصمته إيانا من أن نكون في أزمنة أو أماكن الفتن، أو أن نوجد في أمة غير أمة الإسلام، أو ننطق بلسان غير اللسان العربي.
ونتذاكر كذلك نعمه علينا في أبداننا وعافيتنا.. في أمننا وسترنا.. في حفظنا وثباتنا.. في هدايتنا وعصمتنا من كثير من الذنوب.
وعلينا كذلك أن نمارس هذه العبادة بعد كل عمل كبير يوفقنا الله للقيام به، ثم لم نلحق ذلك بكثرة حمد الله والثناء عليه والسجود شكرا له سبحانه.

اللهم إنا نحمدك ونشكرك ونثني عليك الثناء كله بما أنت أهله يا أرحم الرّاحمين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى