منوعات

البِنية التحتية للبشر.. بقلم /د. أمل درويش.

في زمنٍ ليس ببعيد كنا

نراعي فيه مشاعر الآخرين،

كان صغيرنا يوقّر كبيرنا

، وكبيرنا يرحم صغارنا،

والفرحة نقتسمها على قلوبنا

، فإذا نجح طالب في أول الشارع

انطلقت الزغاريد والتهاني

من كل بيت، حتى تكاد

لا تدري من أي بيت ولدت

الفرحة..
وإذا مرض أحدهم أو حلّت

ببيته مشكلة أهلّت عليه

وفود الأقارب والأهل والجيران

تقدم يد العون والمساعدة..

في زمنٍ ليس ببعيد كانت فيه الطبقية، والباشاوية، والباكاوية والكثير من الألقاب، ومع ذلك تعلمنا في المدارس احترام الآخر، ودرس ابن الغفير بجانب ابن الوزير دون تفرقة أو تمييز حتى وصلوا معًا إلى مقاعد الدراسة بالجامعة..
أما الآن فحدّث ولا حرج، فقد نسيت الأجيال الحالية أبسط القواعد وتخلوا عن كل القيم..

في يوم واحد فقط شاهدت حادثتين كلتاهما تؤذي المشاعر وترهق القلب..
الأولى كانت فيديو قصير لمجموعة مراهقين اعتدوا على رجل طاعن بالسن يقف على حافة مجرى مائي شبه جاف، إلا من قليل من الماء _ولولا عناية الله لكان الرجل غرق في الماء لو زاد الماء قليلًا عما كان يوجد بالفعل_ بعدما دفعه أحد هؤلاء المراهقين بينما يقف الباقون يتنمرون عليه بالسباب ويصورون الحدث وضحكاتهم تشق عنان الفضاء المكلوم على هذا الرجل المسكين الذي لا حول له ولا قوة، وبينما يحاول الرجل الصعود بعد سقوطه في هذا المجرى يلقي عليه هؤلاء الصبية بعض المخلفات التي كان يجمعها ليحاول بيعها ويشتري بثمنها الزهيد ما يسد جوعه..

وأما المشهد الثاني فقد كان آخر فصل في مسرحية أخرى من النوع الساخر الباكي، الذي تقف مشاعرك عاجزة أمام صدمته..
الحادث لطفل في عمر العاشرة كل ذنبه أن والده يعمل في جمع القمامة، لم يكن لصًا أو بلطجيًا أو قاتلًا يجمع المال بطريقة عنيفة فوضوية، بل شخص مسالم اكتفى من الحياة بجمع بقايا ومخلفات الآخرين ليكون ذلك عملًا شريفًا يؤمن به احتياجات أسرته، ولكن لم يسلم الأبناء من الأذى والتنمر، وكان نصيب الابن منها الأكبر؛ فكان أصدقاؤه يحملونه ويلقون به في حاويات القمامة ويلقون عليه وابل السباب وينادونه بـ “ابن الزبال” فيعود لأمه باكيًا شاكيًا يتساءل عن ذنبه، ولكن لم يعد ذلك شافيًا لصدور هؤلاء الأطفال الصغار الذين لم يتلقوا أي نوع من التربية في بيوتهم؛ فقاموا باشعال النار في ثياب الطفل المسكين، وأصيب جسده الهزيل بحروق جسيمة وصلت إلى ٨٠٪؜ وخضع خلال شهر لعشر عمليات، وبالنهاية استسلمت روحه الضعيفة وفاضت لبارئها أرحم الراحمين بعدما قست عليه قلوب البشر..

أي أطفال هؤلاءالذين يفكرون بهذا التفكير الشيطاني؟
ومن أي بيوت جاؤوا؟
وهناك الكثير والكثير من الحوادث المماثلة تحدث في كل يوم، قد توثق بالتصوير وقد تمر دون أن يشعر بمعاناة أصحابها أحد..
ماذا حدث لنا؟؟

حين كان البيت هو الحاضن الأول للطفل، يمنحه أهله الرعاية والحنان ويدسون له القيم الحميدة والفضيلة بين ثنايا هذا الحب وهذه العناية، أما الآن فقد لفظت البيوت أبناءها، وتنازل الآباء عن أدوارهم وتركوا الشوارع تربي بدلًا عنهم أبناءهم، فلا عجب إذا رأينا هذه الأمثلة..
حين كانت وزارة التربية والتعليم تولي اهتمامها الأول بتقويم سلوكيات التلاميذ، وحثهم على الفضيلة ومن ثم يأتي التعليم، فنشأت أجيال توقر الكبير وترحم الصغير والضعيف وتتراحم فيما بينها..
فلمَ لا وقد أصبحت دراسة الدين هامشية، وانعدمت الأخلاق، وغض المعلم الطرف عن سلوكيات تلاميذه خوفًا من أن يقع فريسة غضب الآباء وسخرية الأبناء..
منظومة متهالكة ضربت مجتمعاتنا في مقتل..
انعدام الاحترام وانعدام الانضباط، وانفلات الأخلاق… جميعها تؤدي إلى طريق الهاوية.

نحتاج لخطة محكمة كتلك الخطة التي وضعتها الحكومة لإصلاح البنية التحتية للمدن وإقامة شبكات الطرق، نحتاج لرؤية مستقبلية لأجيال قادمة، وخطط دقيقة مجهزة لبنية البشر، وإقامة شبكات ربط عقولهم بقلوبهم..
نحتاج إعادة تأهيل شعب بكامله ليكون مؤهلًا لخططكم في بناء الوطن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى