المقالات والسياسه والادب

جدي رجل أضاء ظلامه بنور القرآن

 

بقلم ا. سبيله صبح 

 

قد يبتلي الله عباده ليمنحهم، ويأخذ شيئًا ليعطي كل شيء.

وهكذا كان جدي — رحمه الله — نموذجًا لرجلٍ أعمى البصر، لكنه أبصر بنور البصيرة، فصار من أهل القرآن الذين وصفهم النبي ﷺ بأنهم “أهل الله وخاصته.”

 

*ابتلاء النور المفقود:

 

في أوائل عشريناته، لم يكن جدي من حفظة كتاب الله، بل كان مشغولًا برعاية ماله ومال أبيه، بينما كان إخوته يذهبون إلى الكتاتيب طلبًا للعلم وحفظا لكتاب الله، وذات يوم، رآه أعرابي فوقف متأملًا وقال لوالده:

 

 “هل يحفظ ابنك شيئًا من القرآن؟”

فأجابه والده: “لا، لكن إخوته يذهبون إلى الكتاتيب.”

فابتسم الأعرابي وقال: “ولكن نور القرآن يتلألأ في جبينه، فسيكون من أهله.”

 

وكأنما كانت تلك الكلمات نبوءة القدر.

فجدي — رغم عناده آنذاك — كان مختارًا عند الله لطريقٍ لم يكن يتخيله.

 

* ضربة القدر… وبداية الطريق :

 

وفي يومٍ من الأيام، بينما كان جدي يشرف على حرث أرضه، هاج الثور الذي يعمل أمامه، وضربه بقرنه ضربةً قوية فقد فيها بصره إلى الأبد، تبدلت حياته في لحظة واحدة، ففقد النور الذي كان يرى به الدنيا، لكنه وجد النور الذي يُرِى به الله.

 

استسلم لقَدَرِه برضا، وقال لمن حوله: “لقد أخذ الله بصري ليمنحني بصيرةً بالقرآن.”

 

ومنذ ذلك اليوم، بدأ رحلته مع كتاب الله، فأتم حفظه كاملًا في ثلاثة أشهر فقط بفضل الله، حتى صار محفظًا له، عاملاً بما فيه، متخلقًا بأخلاقه.

 

* حافظٌ عامِل… لا حافظٌ غافل : 

 

لم يكن جدي مجرد حافظٍ للقرآن، بل كان قرآنًا يمشي على الأرض، يعلّم الصغار قبل الكبار، ويزرع في قلوبهم حبّ الحروف ومعانيها، حتى صار كثيرٌ ممن تعلموا على يديه من كبار العلماء وأصحاب المناصب الرفيعة، لكنهم جميعًا يتحدثون عنه بصفة واحدة: “كان قلبه قرآنًا، ولسانه رحمةً.”

 

وكان يقول لي دائمًا وهو يراجع معي ما حفظت:

 

“يا بُنيتي، القرآن يتفلّت بتركه، فما حفظته في عامٍ يذهب في شهر إن لم يتم مراجعته ، وما حفظته في شهرٍ يذهب في يوم إن تركتِهِ.”

فقد علّمني جدي أن القرآن حياة يومية، لا مجرد إنجاز نحمله في الذاكرة.

عاش جدي بين الصلاة والقرآن تلاوة وتحفيظا وعملا بما فيه، يشهد الله أني مارأيت منه إلا تخلقًا بأخلاق القرآن، فقد كان جدي قرآنًا يمشي على الأرض، ما أثر فيّ وفي تكوين شخصيتي وجعلني أحاول قدر استطاعتي أن أكون خير خلف لذلك الحافظ العابد. 

 

* الرحيل مع الختمة: 

 

رحل جدي بعد أن أتممت حفظ القرآن على يديه — كان ذلك يومًا لن أنساه ما حييت.

في ساعاته الأخيرة، كان يستمع إلى تلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل عبر إذاعة القرآن الكريم، يختم معه الآيات بخشوعٍ وطمأنينة.

وعندما وصلت الإذاعة إلى دعاء ختم القرآن،

 

تحكي أمي:

 

“وضعت وجهي بين كفّي، فرأيت كأن أطفالًا صغارًا يلبسون ثيابًا بيضًا يملؤون المكان، يحيطون بأبي وهو راقد على سريره، 

 

رفعت رأسي فزعة، فرأيته لا يزال يتنفس، فأعدت وجهي بين كفّي، فرأيتهم يحملونه بخفةٍ يخرجون به عبر الحائط … ثم نظرت

 

إليه، فإذا هو قد رحل، على تلاوة دعاء ختم القرآن.”

 

رحل جدي ولسانه يتحرك بآيات الله، رحل على الخاتمة التي عاش لأجلها، رحل والقرآن آخر أنفاسه، رحل على ماعاش عليه، وإن شاء الله يُبعث عليه ويرتقي به أعلى درجات الجنة حتى يستقر بجوار حبيب الرحمن عليه افضل الصلاة والسلام. 

 

* بقي أثره لا يُمحى :

 

ما زلت أراه في ذاكرتي كما كان: وجهٌ مضيء، وابتسامة مطمئنة، وصوتٌ رخيم يرتّل:

 

 “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا…”

 

رحمك الله يا جدي،

لم يمت جدي، فالأرواح التي عمرها القرآن لا تموت…

هي فقط تنتقل إلى عالمٍ أنقى، حيث تُتلى الآيات بلا انقطاع،

وحيث يكون اللقاء عند ربٍ وعد فقال:

 

 “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدًّا.”

 

سلامٌ عليك يا جدي يوم فقدت بصرك فأنار الله قلبك،

وسلامٌ عليك يوم رحلت ولسانك رطبٌ بآياته،

وسلامٌ عليك ما دام فينا من يتلو القرآن كما علمتَه…

فمن علَّمنا القرآن لم يمت، بل بقي حيًّا في كل آيةٍ نقرؤها،

وفي كل دمعةٍ تنزل من خشية الله.

مقالات ذات صلة