أدب وثقافه

هرم الزجل وشاعر العاميه بيرم التونسي

 

كتب وجدي نعمان

محمود محمد مصطفى بيرم الحريري (23 مارس 1893 – 5 يناير 1961) وشهرته «بيرم التونسي» شاعر مصري، ذو أصول تونسية، ويُعد من أشهر شعراء العامية المصرية . ولد الشاعر بيرم التونسي لعائلة تونسية، كانت تعيش في مدينة الإسكندرية، بحي السيالة ، في 23 مارس 1893. وفي وقت مبكر من صدر شبابه، ربط الفن بينه وبين سيد درويش، وعمق صداقتهما، وجمعهما في السهرات الفنية التي كانت تشهدها الإسكندرية في ذلك الوقت، وكتب بيرم لسيد درويش عدة أغان. ويدخل بيرم مجال الصحافة حيث أصدر صحيفة «المسلة» ، تبعها بعد ذلك بالعمل في عدة صحف مصرية. وتم نفي بيرم التونسي عدة مرات؛ فقد نُفي من مصر إلى تونس ثم إلى باريس ، لتبدأ حياته كشاعر منفي يحن إلى وطنه وظهر ذلك في أعماله التي كان يقوم بها وهو في المنفى. وقامت ثورة 1952 في مصر ففرح بها بيرم وأيدها وقال فيها الأشعار والأزجال. وفي عام 1954 حصل بيرم على الجنسية المصرية. ثم دخل بيرم المجال الفني فألَّف الكثير من الأغاني والمسرحيات الغنائية وتعامل مع أم كلثوم، و فريد الأطرش، و أسمهان، ومحمد الكحلاوي، و شادية، و نور الهدى، و محمد فوزي، كما قدم العديد من الأعمال الإذاعية. وهو ما دفع الرئيس جمال عبد الناصر إلى منحه جائزة الدولة التقديرية عن جهوده في الأدب والفن عام 1960. ولم يمر عام على تقدير الدولة المصرية له حتى رحل عن الدنيا في مايو 1961، بعد معاناة مع مرض الربو ، تاركا للأجيال التالية إرثًا كبيًرا من الأزجال و القصائد و المسرحيات، وتجربة عريضة مليئة بالدروس، خاصة في مجال النضال الاجتماعي من أجل الوطن، مما جعله يستحق عن جدارة لقب فنان الشعب، وشاعر العامية، و هرم الزجل.

رحلة الحياة
 
ولم يكد بيرم يبلغ من العمر ما يمكّنه من فهم ما يدور حوله حتى يسمع بزواج والده من امرأة ثالثة، بل ولا ترحم أمّه طفولته فتحكي له عن زيجات والده، وأيضًا سبب تسميتهم بالتوانسة، وهي أن السلطان التركي كان قد أهدى إلى جدّ والد بيرم جارية فولدت له ولدًا إلا أن الرجل مات قبل أن يثبت نسب هذا الطفل له، ولما كبر الطفل (جد بيرم) رفضت أسرة أبيه الاعتراف به ومنعته من إرثه فهاجر إلى مصر وتزوج وأنجب ثلاثة أولاد، كان من بينهم والد بيرم.
 
وقبل أن يعي الصغير كل هذا، وجه له القدر ثاني ضرباته، وكان موت والده، ولم يكن بيرم قد تخطى الرابعة عشرة من عمره، كأنما القدر -رحمة به- يصعد به إلى قمة الألم درجة.. درجة!
 
وأصبح بيرم هو المسئول عن أمّه ماليًا؛ إذ إن الأب لم يترك لهم شيئًا، بل ويؤكد له أبناء عمومته أن والده قد باع لهم الدكان قبل وفاته، فيضطر أن يعمل كصبي في محل بقالة.
 
وذات يوم يترك بيرم عمله ويذهب لسماع المواويل في المولد، فيطرده صاحب العمل.
 
وفي تلك الأثناء يتعرف بيرم مصادفة على أحد البنّاءين الذي كان يحكي له بعض الأدوار والطقاطيق القديمة؛ وهو ما يدفع بيرم بعد ذلك إلى محاولة معرفة المزيد، فلا يجد سبيلاً إلى ذلك غير شراء كتب الأساطير الشعبية مثل “ألف ليلة وليلة”، “أبو زيد الهلالي”، وكانت هذه الكتب تحتوي على أبيات من الشعر، وصادفت ميلاً عند الصبي. ووقعت في يده مصادفة مجموعة أشعار لابن الرومي، التي اعتبرها بيرم من أمتع ما قرأ.
 
وفي السابعة عشرة من عمره تزوجت أمه، ثم ماتت بعدها بوقت قصير، ويشترك مع أحد الصيادين في دكان للبقالة، ولم يلبث بيرم أن أخذ يقرأ كل ما يقع تحت يديه من قصاصات الورق والكتب، التي كان من المفترض أن يبيع فيها الجبن؛ وهو ما يدفعه نحو العلم فيذهب لشراء الكتب ومخالطة طلبة العلم؛ فلم يكن يعجبه -وهو قليل العلم- ما يلاقيه منهم، من عدم اهتمام بالثقافة العامة، واقتصارهم على المقررات العلمية!
 
وبعد فترة يتزوج بيرم ثم يفلّس مشروعه، بسبب عدم اهتمامه به وبسبب إنفاقه كل ما يأتيه منه على شراء الكتب! فيبيع منزل والدته، ويفكر في مشروع آخر، فيحاول أن يبيع السمن، وكان البلد في هذه الفترة يعيش مرحلة متوترة بشدة، حيث أعلنت إنجلترا أن حكمها يقوم على رعاية مصالح الأجانب وحمايتهم، وكان الإنجليز يتعاملون على أنهم أصحاب البلاد؛ وبالتالي كانوا يفرضون الضرائب الباهظة ويتحكمون في البلاد وفي المواطنين بمنتهى الصلف والاحتقار.
 
فما كان من المجلس البلدي -وكان جميع موظفيه من الأجانب- إلا أن طالب بيرم بضرائب مبالغ فيها، بل ويحجز على بيته، وهنا تنطلق موهبة بيرم وتعلن عن نفسها لأول مرة.
 
نضوجه
 
قام بيرم بكتابة قصيدة، يعبر فيها عن سخريته من موقف المجلس البلدي فيقول:
 
قد أوقع القلبَ في الأشجانِ والكمدِ هوى حبيبٍ يُسمّى المجلس البلدي
ما شرّد النومَ عن جفني سوى طيف الخيال، خيال المجلس البلدي
 
.. حتى يقول
 
كأنّ أمي أبلّ الله تربتها أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواج، فإنْ يومُ الزواج أتى يبقى عروس صديقي المجلس البلدي
وربما وهب الرحمن لي ولدًا في بطنها يدّعيه المجلس البلدي
يا بائع الفجل بالمليم واحدةً كم للعيال؟ وكم للمجلس البلدي؟
 
 
وتحدث هذه القصيدة صدى هائلاً في جميع الأوساط، حتى الشعبية منها، بل لقد طلب المجلس البلدي ترجمة القصيدة. وبعد أن وقفت قدم بيرم التونسي على أرض صلبة – بالنظر إلى موهبته- اتجه بيرم إلى نوع آخر، وهو القصائد الزجلية أي أنه اختار الكتابة بلغة الشعب؛ وذلك بهدف أن تصل قصائده إلى كل فئات الشعب. ويتعرّف بيرم بـ”سيد درويش” ويكتب له أول قصيدة وطنية فيقول:
 
اليوم يومك يا جنود متجعليش للروح تمن
يوم المدافع والبارود مالكيش غيره في الزمن
هيا اظهري عزم الأسود في وجه أعداء الوطن
عارٌ على الجندي الجمود إلا إذا لفّه الكفن
 
 
ويفقد بيرم زوجته في هذه الفترة وقد تركت له ولدين (محمد ونعيمة) فلا يستطيع أن يعتني بهما فيتزوج بعد وفاة زوجته بـ 17 يومًا.
 
وتشب في تلك الفترة ثورة 1919 فيجنّد بيرم قلمه لمساندة الثورة ويصدر جريدة “المسلّة” ويقول: إن سبب هذه التسمية، أن لفظ المسلة يعود إلى الفراعنة حيث كانوا يُطلون مسلاتهم باللون الذهبي والفضي حتى تعكس أشعة الشمس للمصلين داخل المعابد. إلى جانب أن هذه المسلة ذات أطراف مدببة جارحة، وبالإمكان أن نجعلها كالمنار تبدد الظلام والجهل من حياة المصريين، ويكون لأطرافها المدببة –مثل كلمات بيرم القاسية– أقوى أثر على حياتهم وفكرهم.
 
وقال في إحدى قصائده:
 
ما تمضغيش للعيال الأكل باسنانك والنفخ في الأكل، سن، في عرض أيمانك
إخّيه عليكي، بقيتي خصلتك سوده ما تسمعيش الكلام تنشكّي في لسانك
 
 
ويوجه النقد لنصف المجتمع المهمَل والمهمِل -المرأة- فيخاطب المرأة بأسلوبها ويقول:
 
وبطّلي قُولة العفريت والغولة لَيطلع الواد عبيط والبِتّ مخبوله
متعرفيش الكلام ده يتلف الأولاد ويفرّجوكي المرار وتعيشي مخبوله
 
 
ويستقبل الجمهور العدد الأول من جريدته -الذي وزعه بيرم بنفسه- بترحاب شديد. وليكون بيرم في قلب الأحداث؛ ينتقل إلى القاهرة ويؤجر حجرة بها، ويؤلف في هذه الفترة أوبريت جديد بالاتفاق مع “سيد درويش” ويقررا أن يكون مضمونه سياسيًا لكي يبثوا في دماء الشعب الحماسة.. ويكتب بيرم في الأوبريت:
 
أنا المصري كريم العُنصرين بنيت المجد بين الأهرمين
جدودي أنشئوا العلم العجيب ومجرى النيل في الوادي الخصيب
بيرم والعائلة المالكة
 
في عهد الملك فؤاد استفحل نفوذ الانجليز في البلاد دون أن يجسر أحد على نقد الملك العميل، فانفرد بيرم بمهاجمته بأقسى أنواع النقد بنشر فضائحه الشخصية. وقد قيل أن هذه الجرأة كانت ناشئة عن جنسيته التونسية التي كان لها حقوق الجنسية الفرنسية فلا تخضع للمحاكم المصرية. [1]
 
وكان أول هجوم له هو نشره ما ذاع من أن سراي السلطان فؤاد كانت مسرحاً لعلاقة غرامية بين فايقة، ابنته من زوجته الأولى شويكار. تلك العلاقة كثرت حولها الأقاويل حيث شاع بين الناس أن محافظ القاهرة حينذاك، حسين فخري على علاقة غير شريفة بالأميرة، فطلب فؤاد من المحافظ أن يتزوجها فرفض. فعرض الأمر على أخيه محمود فخري باشا وأغراه بتعيينه في منصب مرموق فقبل. فكتب بيرم زجلاً على وزن أغنية شعبية كانت شائعة حينئذ مطلعها “مرمر زماني، يا زماني مرمر” بعنوان القرع السلطاني، الذي يقول:
 
البنت ماشية من زمان تتمخطر والغفلة زارعة في الديوان قرع أخضر
تشوف حبيبها في الجاكتة الكاكي والستة خيل والقمشجي الملاكي
تسمع قولتها … يا وراكي والعافية هبلة والجدع متشطر
الوزة من قبل الفرح مدبوحة والعطفة من قبل النظام مفتوحة
والديك بيدن والهانم مسطوحة تقرا الحوادث في جريدة كتر
يا راكب الفايتون[2] وقلبك حامي حود على القبة[3] وسوق قدامي
تلقى العروسة شبه محمل شامي وابوها يشبه في الشوارب عنتر[4]
وحط زهر الفل فوقها وفوقك وجيب لها شبشب يكون على ذوقك
ونزل النونو القديم من طوقك ينزل في طوعك لا الولد يتكبر
دا ياما مزع كل بدلة وبدلة وياما شمع بالقطان والفتلة
ولما جه الأمر الكريم بالدخلة قلنا اسكتوا خلوا البنات تتستر
نهايته يمكن ربنا يوفقكم ما دام حفيظة الماشطة بتزوقكم
دي سكرة مالطي داهية ما تفوقكم بس ابقى سيبك م اللي فات دا مقدار
 
وعندما علم فؤاد بهذا الزجل هاج وماج، ولكن الامتيازات الأجنبية حالت دون ينال من بيرم شيئاً.. ولم يلبث بيرم أن كتب زجلاً آخر أكثر جرأة بعد أن أعلن عن مولد فاروق في 11 نوفمبر سنة 1920، ولم يكن قد مضى على زواج فؤاد بزوجته الثانية نازلي إلا قرابة سبعة أشهر، حتى أشيع أن الحمل في فاروق حدث قبل عقد القران – فكان الزجل الذي كتبه بعنوان البامية السلطاني، وهو التالي:
 
البامية في البستان تهز القرون وجنبها القرع الملوكي اللطيف
والديدبان داير يلم الزبون صهين وقدم وامتثل يا خفيف
نزل يلعلط تحت برج القمر ربك يبارك لك في عمر الغلام
يا خسارة بس الشهر كان مش تمام
 
ثم نشر بيرم زجلاً أشد عنفاً بعنوان هاء هاء وماء ماء:
 
اسمع حكاية بعدها هأهأ زهر الملوك في الولد أهو طأطأ
مالناش قرون كنا نقول مأ مأ وناكل البرسيم بالقفة
سلطان بلدنا حرمته جابت ولد وقال سموه بقاروق
فاروق فارقنا امال بلا نيلة دي مصر مش عايزالها رذيلة
دي عيشة بالقوة وبالتيلة ومين بقى يلحس دي التفة
يا داية ليه مانتيش حداية خدتيه ورحتي على الجبلاية
جبتي لنا خبره وتنك جاية ندق لك في البيت الزفة
يا عزرائيل اخلص بقى تاوي ناقص سوا وديه عالنار
وخد كمان جوليا قطاوي[5] ياما الزمان كشف أسرار
 
وبعد هذا الزجل اللاذع انصل فؤاد بالسلطات الأجنبية ونجح في اقناعهم بترحيل بيرم إلى تونس. وما أن استقر بيرم في تونس حتى أرسل زجلاً يسخر من السلطان بقوله:
 
ما قلتليش يا راعي الرعيان بقى لك أزمان
ازاي أحوال الخرفان بتوع المجزر
 
وعندما أصبح السلطان أحمد فؤاد ملكاً عقب التصريح البريطاني في 28 فبراير 1926 الذي اعترفت فيه بريطانيا بالاستقلال الذاتي لمصر وتحولت مصر من سلطنة إلى مملكة، إذا ببيرم ينشر زجلاً بعنوان مجرم ودون يقول:
 
ولما عدمنا بمصر الملوك جابوك الانجليز يا فؤاد قعدوك
تمثل على العرش دور الملوك وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون
وخلوك تخالط بنات البلاد على شرط تقطع رقاب العباد
وتنسى زمان وقفتك يا فؤاد على البنك تشحت شوية زتون[6]
بذلنا ولسة بنبذل نفوس وقلنا عسى الله يزول الكابوس
ما نابنا إلا عرشك يا تيس التيوس لا مصر استقلت ولا يحزنون
 
 
ويواصل بيرم نشاطه في صحيفته فيصدر في العدد 13 قصيدة بعنوان “البامية الملوكي والقرع السلطاني” وفيها ما يفيد أن وريث العرش الجديد –وهو الملك فاروق- وُلد بعد أربعة أشهر فقط من الزواج!
 
وعلى إثر هذه القصيدة أمر السلطان بإغلاق الصحيفة فورًا، فأصدر بيرم جريدة أخرى سماها “الخازوق”، وواصل هجومه فيها على الأسرة المالكة، لدرجة أن السلطان اتصل بالقنصلية الفرنسية -التي كانت تتدخل في شئون مصر بزعم حمايتها للأجانب، وبما أن أصل بيرم (أبو الجد) غير مصري؛ يكون بيرم تحت الحماية الفرنسية- لترحله فورًا إلى بلده تونس.
 
وفعلاً يتم طرد بيرم في 25 أغسطس 1920 ولا يُسمح له حتى بوداع أهله، وكان عمره وقتها سبعة وعشرين عامًا!.
 
 
 
 
سواح في تونس وفرنسا
 
عند وصول بيرم إلى تونس أول ما بحث عنه هو السبب الذي من أجله تم طرده من مصر، ثم البحث عن أصوله التونسية، وبالفعل استطاع الوصول إليهم، وفوجئ بهم يذكرون أول ما يذكرون أصله، وأنه “ولد الجارية” التي أهداها السلطان التركي لجدهم، فيتركهم بيرم وهو يشعر بأنه منفي إلى بلد غريب عنه.
 
ولا يسمح له حاكم تونس بمزاولة أي عمل صحفي؛ فيقرر السفر إلى باريس ومنها إلى ليون، وكان عمله هناك مجرد وسيلة يضمن بها بقاءه على قيد الحياة، فعمل بيرم في مصانع الصلب والغازات الخانقة، وكان لهذا العمل الشاق –بجانب مشقة الغربة- أثر كبير في صقل موهبته، فمع انشغال بيرم الدائم بانتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية في بلده (مصر) –على الرغم من بعده عنها- واصل بيرم عمله الزجلي بشكل آخر، حيث عقد مقارنات بشكل أدبي أيضًا بين مصر وباريس.
 
وبعد فترة يمرض بيرم بسبب عمله فيفقده؛ وهو ما يجعله يشعر أكثر بمرارة الغربة، وفيما بعد يروي عن تلك الفترة فيقول: “كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين: كنت في البداية أتصور الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمّس، هذه منجاية مستوية، ثم انتقل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة، فهي أفضل من هذا العذاب الأليم.. وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفّة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني وتحدثني نفسي أن آكل قطنه أو أبحث بين محتوياته عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت”.
 
وفي تلك الأثناء يستطيع بيرم خداع السلطان والعودة إلى مصر ليفاجأ أن زوجته قد حصلت على الطلاق في غيابه، وأنجبت له طفلة أخرى، وبالفعل يواصل بيرم إنتاجه وينشره بدون توقيع هذه المرة، إلا أن أحد أصدقائه تكلم عن لقائه بيرم أمام أحد رجال السلطة، وهو يعتقد أنه قد تمّ له السماح بدخول البلاد!
 
وتم ترحيله ثانية إلى ميناء مرسيليا بفرنسا، فيعمل في مصنع للكيماويات ثم مصنع حرير، كل هذا وهو لا يزال مهتما ومتابعا للأحداث التي تقع في وطنه.. يقول بيرم عندما يعلم أن بعض رجال الصوفية يحرّضون الناس على الانفضاض عن “عمر لطفي” ودعوته التعاونية بزعم أنه من أنصار الحركة البلشفية -يقول بيرم تحته عنوان “عالم ومسلم وبتعارض في فعل الخير؟”.
 
لا في الجوامع رأيت مثلك ولا في الدير عالم ومسلم وبتعارض في فعل الخير
مدام فضيلتك بتاكل “كستيلته وطير” يبقى الدّريس والدرة والفجل للخرفان
لا.. والتلامة يستشهد لنا بالدين إنّه أمر يبقى نُص المسلمين جعانين
إن كنت فاهم شريعة العدل عن لينين انظر شريعة نبينا نازلة في القرآن
 
 
ويأخذ بيرم في مراسلة الفرق المسرحية ليجد ما يسد به جوعه فيكتب بيرم ويقول:
 
يا باريز يام بلاد برّه يا مرّبيه لامارتين
بعتتْ لك أم الدنيا شاعر في الشعر متين
يعمل أشعار لصعايده وبنات وفلاحين
وتلامذه وأزهريه وخوجات ومفتشين
إياك ما يموتش عندك في بيوت المساكين
 
 
وتظل توجه الدنيا ضرباتها لبيرم، حتى يتنكر له الكثير من أصحاب الجرائد التي يراسلها فيعبر عن آلامه ويقول:
 
الأوّله مصر، قالوا تونس ونفوني
 
والتانيه تونس، وفيها الأهل جحدوني
 
والتالته باريس، وفيها الكل نكروني
 
الأوله مصر، قالت تونس ونفوني.. جزات الخير
 
والتانيه تونس، وفيها الأهل جحدوني.. وحتى الغير
 
والتالته باريس، وفيها الكل نكروني.. وأنا موليير
 
 
ومن أبرز ما أنتجه بيرم، نقد ومقارنة اجتماعية بين باريس ومصر وسماها “السيد ومراته في باريس”، وكان بيرم يرسل أجزاء هذا العمل إلى صديقه “عبد العزيز الصدر” الذي جمعه وأصدره في جزأين على نفقته الخاصة ولحسابه! وتم استخدام هذا العمل في دراسة اللهجة العامية المصرية في قسم اللغات الشرقية في جامعة برلين؛ إذ يتناول قصة سفر رجل وزوجته إلى باريس وتأثرهما الإيجابي بالعادات الغربية مع تمسكهما بهويتهما العربية.
 
قتال حتى النهاية
 
تمت خطبة ابنته (نعيمة)، فيراسل بيرم خطيبها، ويرسل إليه بأزجاله حتى يقوم بتوزيعها له، ويتم أيضًا زواج ابنته وهو لا يزال ينتقل من بلد إلى أخرى فيضطر لأن يراسل -عن طريق زوج ابنته- بعض الصالات الفنية، وبعد عدة محاولات يستطيع بيرم ثانية بمساعدة أحدهم العودة إلى مصر عن طريق ميناء بور سعيد، وتساعده على ذلك ملامحه الغربية بعض الشيء، ويستطيع بيرم أن يصل إلى بيت ابنته، التي تركها وعندها سبع سنوات ويعود وعمرها عشرون عامًا!!
 
وينتقل بيرم بين بيوت أصدقائه محاولاً الاختباء لديهم، حتى يرسله أحدهم إلى عيادة صديق له ليختبئ فيها، فيدرك الطبيب خطورة ذلك؛ إذ إن العيادة يتردد عليها الكثير من الناس فيفكر في صديق له من أشد المعجبين ببيرم وهو في الوقت نفسه أعزب، لذا فإن مسكنه هو أنسب مكان لإخفاء بيرم، فيتركه صديقه الطبيب في بلكونة عيادته وينزل ويعود معه صديقه العازب “كليم أبو سيف”، الذي يوافق على خطة صديقه الطبيب، وبمجرد أن فتح الرجلان الباب على بيرم، حتى ينهار بيرم تمامًا ويأخذ يصرخ ويبكي وهو يقول لصديقه الطبيب: “ليه يا طه.. دا أنا عندي أولاد.. ليه الله لا يبليك باللي شفته” إذ إن بيرم اعتقد أن صديقه أبلغ عنه السلطات، فشرح له الطبيب فورًا فكرته، وبالفعل يذهب بيرم للاختفاء عند “كليم”.
 
وكان “كليم” على علاقة قوية بوزير الداخلية حينذاك “محمود فهمي النقراشي” فيحكي له عن بيرم، راجيًا منه مساعدته في أخذ العفو من الملك، ويبعث بيرم بزجل إلى جريدة “الأهرام” يشكو فيه آلام المنفى ويطلب عفو الملك، وبالفعل يتم نشر الزجل في الصفحة الأولى ويصدر أمرًا وزاريًا بتجاهل وجوده في مصر!
 
ويصدر وبعده يصدر عفوًا ملكيًا عن بيرم، فيعمل بيرم كمدير للدعاية بشركة في الإسكندرية، إلا أنه يتركها ليتفرغ للعمل الصحفي فيصدر صحيفة فكاهية ثم يتركها بعد فترة. ثم يعمل كاتباً في أخبار اليوم وبعدها عمل في جريدة المصري ثم ينجح بيرم في الحصول على الجنسية المصرية فيذهب للعمل في جريدة الجمهورية ، وقد قدّم بيرم أعمالاً أدبية مشهورة ، وقد كان أغلبها أعمالاً إذاعية منها ( سيرة الظاهر بيبرس ) و ( عزيزة ويونس ).
 
ليتوجه للعمل في السينما والإذاعة والمسرح، ويواصل نقده الاجتماعي، ويذكر أيضًا المزايا مثل العيوب تمامًا، فيقول في الحالة الفنية في ذلك الوقت:
 
كل جدع فرحان بشبابه يقول: في عنيه دموع
 
باللي جلبتي شقاه وعذابه، حلّي لنا الموضوع
 
طالع نازل، يلقى عوازل واقفه بتستنّاه
 
يا أهل المغنى دماغنا وجعنا، دقيقة سكوت لله
 
حافضين عشرة اتناشر كلمة، نقل من الجورنال
 
شوق، وحنين، وأمل، وأماني، وصد وتيه ودلال
 
واللي تعاد ينزاد يا خوانا، وليل ونهار هُوّاه
 
يا أهل المغنى دماغنا وجعنا، دقيقة سكوت لله
 
 
وفي تلك الأثناء يعيد بيرم زوجته الثانية إلى عصمته وينجب منها ولدين، ثم يجمع بيرم بعض أزجاله التي كتبها في المنفى في ديوان من جزأين، ومع قيام ثورة يوليو يساندها بيرم بأزجاله الوطنية ويقول:
 
أرض العرب وحدها فيها الدمار جاريه
 
من بعد مصر الجريحة تنضرب سوريا
 
متحسبوناش يا عالم حتّه من كوريا
 
واحنا اللي بنحب عيسى وستنا ماريه
 
 
وأبلغ ما كتب أيضًا من أزجاله، أثناء العدوان، ما قاله تحت عنوان “سنّي سكاكينك”:
 
وقالوا يا إسرائيل إحنا اللي باعتينك
 
واحنا اللي بالمال وبالصواريخ بنعينك
 
فـ المسلمين ادبحي واحد ورا التاني
 
وكل ما يصرخوا، سنّي سكاكينك
 
 
غنّت له أم كلثوم عدة قصائد مما ساعد على انتشاره في جميع الأقطار العربية. أما علاقته بالفن وبالأخص السيدة أم كلثوم، فتعكس جانبًا خافيًا من حياة بيرم على كثير منا!!
 
وليس أبين لهذه العلاقة أكثر من معرفتها لكره بيرم للمرأة البيتوية، فهو كان مؤمنًا بدفع المرأة إلى دائرة العلم والعمل، فمن الطبيعي إذن معرفتنا باهتمامه وتقديره للمرأة العاملة وبالأخص أم كلثوم، التي استطاعت إثبات نفسها، ليس فقط على المستوى العربي ولكن أيضًا على المستوى العالمي!
 
واستطاع بيرم كتابة قصائد من أروع ما غنت أم كلثوم منها “أنا وانت”، “الآهات”، “هوه صحيح الهوى غلاب”، “كل الأحبة” ويقول مطلعها:
 
كل الأحبه اتنين اتنين وانت يا قلبي حبيبك فين
يطلع عليَّ البدر جميل يا بدر مالي أنا ومالك
ما ليش يا بدر نديم وخليل أوريه ويوريني جمالك
نورك يا بدر يزيد وتبقى ليلة عيد
ليله ما يطلع على أليفين اتنين اتنين وانت يا قلبي حبيبك فين
 
 
وفي أغنية “الأولة في الغرام” قال:
 
الأوّله في الغرام والحب شبكوني
 
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني
 
والتالته من غير ميعاد راحوا وفاتوني
 
الأوله في الغرام والحب شبكوني، بنظرة عين
 
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني، وأجيبه منين؟
 
والتالته من غير ميعاد، راحوا وفاتوني، قولولي فين؟
 
 
ويكتب لها بيرم أيضًا الأغنية الدينية “القلب يعشق كل جميل”، وهي من القصائد الصوفية (العشق الإلهي) وأيضًا القصائد الوطنية مثل “صوت السلام”.

 

اعلان
بيرم وسيد درويش
 
سيد درويش
يروي بيرم قصة لقائه بسيد درويش فيقول: «لازمت الشيخ سيد درويش وألفت له رواية شهرزاد بعيدًا عن النشاط السياسي، وتم عرضها بعد رحيلي الأول منفيًا إلى الخارج، وكان الاسم الذي اقترحناه للرواية هو «شهوزاد» إشارة إلى شهوات العائلة الحاكمة ولكن الرقابة منعت ذلك الاسم فعدلته» وكان سيد درويش قد طلب من بيرم أن يؤلف له أوبريت يُلهب الحماسة في نفوس المصريين، ويدفعهم لمناهضة الاحتلال. فيقول لبيرم: «دائمًا حجة الإنجليز أمام العالم لتبرير استعبادنا أننا شعب ضعيف لا يستطيع حكم نفسه وأننا بحاجة إلى حماية مستمرة، وعلشان كده أنا شايف إن الأوبريت من أولها إلى آخرها لازم يكون فيها تمجيد للإنسان المصري»
 
فقام بيرم بتأليف شهرزاد للشيخ سيد، وأحداث هذا الأوبريت مقتبسة عن أوبريت «دوقة جيرولستين الكبيرة» للكاتبين الفرنسيين: ميلهاك وهاليفي. ويأتي في هذا الأوبريت أروع ماقيل عن الشعب المصري:
 
بيرم التونسي أنا المصري كريم العنصرين
بنيت المجد بين الأهرمين
جدودي أنشأوا العلم العجيب
ومجرى النيل في الوادي الخصيب بيرم التونسي
سنوات المنفى
 
صورة فضائية لتونس، وطن أجداد بيرم
لقد صدر الأمر بإبعاد بيرم التونسي من مصر، ونفيه إلى وطن أجداده في تونس يوم 25 أغسطس عام 1920، في يوم كان الاحتفال بعيد الأضحى. وكان سبب الإبعاد غضب الملك فؤاد عليه بسبب قصيدته «البامية الملوكي والقرع السلطاني»، وبتوصية من زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد حيث هاجمه في مقال تحت عنوان «لعنة الله على المحافظ» حيث كان آنذاك محافظًا للقاهرة. وما إن وصل تونس حتى بحث عن أهل أبيه، ولكنهم طردوه ولم يساعدوه. وحاول الاتصال ببعض الكتاب التونسيين للاشتراك معهم في إصدار صحيفة، ولكن الإدارة التونسية كانت تضعه تحت المراقبة منذ وصوله، باعتباره مشاغبًا وباعث ثورات، ولأن الدعاية التي أحاطته منذ وصوله أنه ينتمي إلى عائلة أصلها تركي وأنه كان أحد الثائرين في مصر ضد انجلترا، فقد جعلت تلك الدعاية -كما يقول بيرم- حينما يعود من جولته اليومية إلى الفندق الذي ينزل فيه يقول مديره للخدم: «أعطو التركي مفتاح غرفته عشان يرقد.»، ولهذا كله لم يستطع ممارسة أي نشاط صحفي أو سياسي طوال فترة إقامته، وسمحوا له بالأعمال التي تحتاج قوة جسمانية، فاشتغل في بعض المحلات التجارية، ثم اكتشف أن البوليس بدأ يضيق الخناق عليه، ويتتبعه في كل مكان يذهب إليه، فيقرر الرحيل من تونس بعد أربعة أشهر.
 
سافر إلى فرنسا وما إن وصل إلى ميناء مارسيليا الذي لم يحتمل المكوث فيه أكثر من ثلاثة أيام، انتقل بعدها إلى باريس التي شعر فيها بقسوة الغربة ولسعة البرد الشديد، ولا يعطل الناس عن الاستيقاظ مبكرين والتوجه إلى أعمالهم. لقد دفعه ذلك إلى كتابة أبيات؛ يسجل فيها إعجابه بنشاط الشعب الفرنسي، وتسجيله لحزنه على مصر فكتب:
 
بيرم التونسي الفجر نايم وأهلك ياباريس صاحيين
معمرين الطريق داخلين على خارجين
ومنورين الظلام راكبين على ماشيين
بنات بتجري وياما للبنات أشغال
وعيال تروح المدارس في الحقيقة رجال
ورجال ولكن على كل الرجال أبطال
ولسه حامد وعيشة واسماعين نايمين بيرم التونسي
يفشل بيرم في الحصول على عمل في باريس، فينصحه بعض المغتربين بالسفر إلى مدينة ليون، التي وصفها في مذكراته قبل وفاته بقوله:
 
بيرم التونسي سعيت بنفسي إلى مدينة صناعة الصلب في فرنسا، تلك المدينة التي لأهلها قلوب مثل الصلب لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وهي أيضًا مدينة مشهورة عند الفرنسيين أنفسهم بأنها مدينة معتمة.. وصلت لهذه المدينة في عز الشتاء ولأن جيوبي كانت شبه خاوية فقد أخذت المسألة من أقصر طرقها، وذهبت إلى أفقر أحيائها، واستأجرت فوق سطوح أحد المنازل شيئاً يسمونه حجرة، كانت من الخشب الذي حولته مياه الأمطار إلى مكان له رائحة من نوع خاص، إنها رائحة قريبة من العفن، وداخل تلك الثلاجة كنت أنام الليالي القاسية البرودة، وفي النهار كنت أسعى مع الفجر في البحث عن عمل قبل أن يتبخر آخر مليم في جيبي. بيرم التونسي
والتحق بيرم بالعمل في أحد مصانع الحديد والصلب، ولكنه تركه بعد أن سقطت على فخذه قطعة حديد كبيرة، إلا أنه أستطاع أن يحصل على شهادة حسن سير وسلوك، وهي الشهادة التي سوف تسهل له العمل في فرنسا. والواقع أن بيرم لم يستطع الحصول على عمل جديد في مدينة ليون بسهولة، فهي مدينة لا تحبذ اشتغال الأجانب، ولهذا بدأ يقتصد في وجبات طعامه؛ فجعلها وجبة واحدة في اليوم، ثم اختصرها إلى وجبتين في الأسبوع، وكان كلما أراد أن ينسى آلام بطنه الخاوية، جلس ليستجمع ذكرياته عن مدينة الإسكندرية، وحياته في مصر بين الأهل والأصدقاء. وتنضب جيوب بيرم من النقود، وهو مازال يبحث عن عمل في المدينة التي لا تمنح طعامها إلا لمن يعمل، ويدخل في مرحلة الجوع الكامل، إنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام، والجوع في مدينة درجة حرارتها تحت الصفر شيء قاتل لا يستطيع أن يصفه لنا إلا من ذاق قسوة التجربة بكل مافيها من ألم وعذاب.
 
 
مدينة ليون
إن بيرم يروي تجربته مع الجوع في مدينة ليون فيقول:
 
بيرم التونسي كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين، كنت في البداية أتصور الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمس، وهذه منجاية مستوية..وهذه يا ربي رائحة بفتيك تنبعث من عند الجيران، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة فهي أفضل من هذا العذاب الأليم..وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن أكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت، وكان لا ينقذني من تلك الحال سوى معجزات، عندما أنهض كالمجنون أبحث في كل أركان الحجرة عن أي شيء فأعثر بالصدفة على كسرة خبز..أو بصلة مهجورة. بيرم التونسي
لا ينقذ بيرم من الموت جوعًا سوى عثوره على وظيفة في شركة المنتجات الكيماوية العالمية، فهو يتمتع بقوة جسمانية، ولكن يحتاج هذا العمل إلى طراز معين من الناس لديهم قدرة على تحمل الغازات الكيماوية الخانقة والمعادن القذرة، ويمنحونه في مقابل تلك الوظيفة القاتلة 20 فرنكاً في اليوم. وتأكل الوظيفة الجديدة جانبًا كبيرًا من عافيته، وتجعله يبدو في حياته إنسانًا كئيبًا، حزينًا، لا تعرف الابتسامة طريقها إلى وجهه، ورغم هذا فقد كان يعود من عمله في المناجم الذي يستغرق تسع ساعات ليبدأ في عمل جديد. إنه يكتب أزجالاً ليرسلها إلى جريدة هزلية في القاهرة اسمها«الشباب» اتفق مع صاحبها «علي عبد العزيز الصدر» على أن يراسله، في مقابل أن يسلم لزوجته ثمن الأزجال، حتى تستطيع مع النقود القليلة التي يرسلها لها من ليون أن توفر أجرة المسكن والطعام.
 
العودة إلى الوطن
 
منظر قديم لميناء بورسعيد
لا يستطيع بيرم أن يواصل تلك الحياة القاسية، ثم أنه لا يتصور الابتعاد عن زوجته وأولاده لأكثر من عام ونصف؛ إنه يشعر بحنين إلى مصر، إلى أولاد البلد الذين أعطوه الإلهام. ولهذا يبدأ في البحث عن طريقة تساعده في العودة إلى مصر. فلجأ إلى اختصار اسمه في جواز السفر الجديد الذي كان يحمل ختم القنصلية البريطانية، واستطاع بهذا الجواز أن يصعد إلى السفينة، وينزل في ميناء بورسعيد، وذلك في يوم 27 مارس عام 1922. ويتجه فوراً إلى الإسكندرية، إلى حي الأنفوشي، متخيلًا اللحظة التي سيلتقي فيها بزوجته، ويأخذ بين يديه مولودهما الذي لم يتعرف على ملامحه بعد، فقد ترك زوجته الجديدة وهي حامل. وماإن وصل إلى حي الأنفوشي حتى علم أن زوجته وضعت طفلة اسمها عايدة، وأنها طلبت الطلاق في فترة غيابه، وحصلت عليه بعد أن أثبتت أن زوجها مغضوب عليه، وليس هناك أي أمل في عودته للبلاد.
 
كان الوضع السياسي مُلتبس في هذه الأثناء، وسلطات الاحتلال تقمع أي معارضة، وتم نفي سعد زغلول للمرة الثانية. ولهذا فقد قرر بيرم ألا يغامر بالنزول إلى الشارع، وأن ينتظر لحظة هدوء تسود مصر، يحاول أثناءها أن يتصل ببعض الذين لديهم القدرة على الاتصال بالقصر، ليتوسطوا في إصدار العفو عنه والسماح ببقائه في البلاد دون تهديد أو خوف من افتضاح أمره. ولكن انتظار بيرم طال في منزل أولاد عمه لمدة ثلاثة أشهر، قرر بعدها أن ينزل إلى الشارع ويمارس حياته العادية، فقد أصبح أمره لا يهم أحدا. بل ورأى أنه يستطيع السفر إلى القاهرة ليلتقي بعبد العزيز الصدر صاحب جريدة«الشباب»، وببعض الأصدقاء المخلصين الذين يستطيع الاعتماد عليهم في حل مشكلته.
 
لكن الحياة لم تطب لبيرم، حيث كان في كل لحظة مهددا بالإبعاد مرة أخرى إذا اكتشفت السلطات أمره حيث دخل مصر متسللاً. ولا يطيق بيرم هذا الخناق الذي كان يُقيد من حريته، حيث لا يستطيع الكتابة ونقد الأحوال ومناهضة الاستعمار خوفًا من النفي مرة أخرى. فيتفق مع صاحب جريدة الشباب بأن يرسل للجريدة كل أسبوع معظم مواد العدد، بشرط ألا يضع اسمه على الأزجال السياسية. وواصل بيرم كتابة الأزجال السياسية التي ليست فقط بها نقد للحكم بل تتخطى ذلك بكثير، وأدى تعقد الأحوال السياسية وتشابكها آنذاك، وانشغال القصر بالصراعات مع المعارضة إلى اطمئنان بيرم وإلى تماديه في كتابة أزجاله التي تترجم إحساسه بالضيق والثورة.
 
استمر وجود بيرم في مصر لمدة 14 شهرًا، وتم اكتشاف أمر دخوله مصر متسللًا ،وتم القبض عليه للمرة الثانية، ويوضع يوم 25 مايو عام 1923 على ظهر أول سفينة تغادر البلاد إلى فرنسا.
 
عودة إلى المنفى
 
ميناء مارسيليا الذي عمل فيه بيرم حامل لحقائب المسافرين
يُرحل بيرم للمرة الثانية عن مصر، ويروي بيرم قصة هذا الرحيل بقوله: «إذا كان رجال السياسة لم يشعروا بوجودي حينئذ، فقد شعر بي الزملاء من أهل الأدب، فقاموا بإبلاغ السلطات عني وعن أمكنة وجودي وحركاتي وسكناتي، فقامت بترحيلي من جديد إلى خارج مصر». وصل بيرم ميناء مارسيليا بفرنسا ليعمل شيالًا يحمل صناديق البيرة وحقائب المسافرين
 
 
مدينة جرينوبل، فرنسا، وقت ما ذهب إليها بيرم
وبحث بيرم عن أي عمل في مصانع المدينة، إلا أنه لم يفلح في ذلك حيث كانت العقبات والعراقيل. ولم يتخلص بيرم من أزمته إلا عندما يقابل بالصدفة أحد المصريين ويحكي له مأساته فيتأثر بها، ويأخذه من يده ليتوسط له في شركة للصناعات الكيماوية، ويتسلم عمله الجديد، الذي وجد فيه منذ اليوم الأول أعظم طريقة للانتحار البطيء. ولم يستطع بيرم العمل في هذا المصنع لفترة طويلة، فقد مرض، ونقلوه إلى المستشفى،وعندما تم له الشفاء أقسم ألا يعود إليه مرة أخرى. ثم التحق بمصنع للحرير الصناعي في مدينة «جرينوبل»بجنوب شرق فرنسا، ومرض مرة أخرى نتيجة الغازات الخانقة التي يستنشقها في هذا المصنع أيضاً، ونقل إلى المستشفى، ولكن بقاءه فيها طال، ففصل من العمل. قابل بيرم عزيز عيد في فرنسا، وطلب عزيز من بيرم أن يؤلف له مسرحية في مقابل عشرين جنيهًا كمقدم، وتكون أحداث هذه المسرحية مقتبسة من نص أجنبي، ثم سأله بيرم عن الطريقة التي يستطيع بها العودة إلى مصر، لأنه لم يترك وزيرا أو شخصية مهمة حضرت إلى فرنسا دون أن يقابلها، ولكن دون جدوى. وقال عزيز لبيرم: إنه من جانبه سيحاول أن يثير مشكلته مع كل مسؤول يأتي إلى مسرحه. ووجد بيرم الرواية الأجنبية في رواية تسمى «لو كنت ملكاً»، وبدأ في تمصيرها وسماها «ليلة من ألف ليلة»، ونجحت نجاحًا مبهرًا. وصل خطاب لبيرم من عزيز عيد أخبره فيه بأن يتفرغ لكتابة المسرحيات لفرقته وإرسالها إليه، وأنه سيمده باستمرار بالنقود بدون انقطاع، وأنه سيترك له حرية اختيار الأفكار دون تدخل من جانبه.
 
علم بيرم أن صديقه زكريا أحمد قد وصل إلى باريس، فأسرع لمقابلته، لكي يتوسط له عند القصر حتى يستطيع الرجوع لمصر، ولكن زكريا أحمد لم يعطه أملا في العودة في ذلك الوقت. ولم يجتمع بيرم وزكريا أحمد بعد هذه المقابلة، وترك زكريا باريس بعد أن أعطى وعداً لبيرم بمده بالنقود من وقت لآخر، وأنه سيبذل كل مافي وسعه في القاهرة للعمل على عودته إلى أهله وأولاده.
 
مرت تسع سنوات قضاها في فرنسا بعد نفيه من مصر للمرة الثانية، لا ينقطع فيها بيرم رغم الألم النفسي والجسدي الذي عاناه من الانقطاع عن تأليف أبدع الأزجال التي كان يرسلها إلى الصحف وناشري الكتب بصفة مستمرة، ولم يمنعه من مواصلة الكتابة سوى خروج الصحف الفرنسية ذات يوم وبها إنذار يطالب الأجانب بالاستعداد لمغادرة البلاد والعودة إلى أوطانهم فورًا. فتذكر بيرم في هذه اللحظة آلامه في المنفى، والدنيا التي تنكرت له، وحياة التشرد التي عاشها، إن آهاته تصل إلى عنفوانها عندما يصف الجحود الذي اُستقبل به في مصر وتونس وباريس، فيقول:
 
بيرم التونسي الأولة مصر قالو تونسي ونفوني
والتانية تونس فيها الأهل جحدوني
والتالتة باريس وفيها الكل نكروني بيرم التونسي
ويُرحل بعد ذلك من فرنسا لتونس ومن تونس لسوريا ومن سوريا يوضع على ظهر سفينة لنفيه لأي دولة في شمال أفريقيا، واستطاع أثناء ترحيله أن يهرب عن طريق أحد البحارة المصريين وينزل بورسعيد هاربًا، خشية أن يراه أحد، وكان وصول بيرم إلى مصر في اللحظات التي صاحبت انتخابات البرلمان الجديد، في 8 أبريل عام 1938. ويبدأ بيرم في مصر حياة من الهروب والخوف التي كان يعيشها خشية أن يكتشف أحد أمره فيتم نفيه من مصر مرة أخرى. ويطلب من زوج ابنته سعيد راتب أن يذهب إلى جريدة الأهرام، ويقابل صديقًا من المعجبين به ويعطيه خطابًا مهمًا. وكان هذا الصديق هو الصحفي كامل الشناوي الذي كتبه بمجرد هروبه من السفينة، والذي كان يقول فيه:
 
بيرم التونسي غلبت أقطع تذاكر وشبعت يارب غربة بيرم التونسي
ويطلب بيرم في هذا الخطاب من كامل الشناوي أن ينشره له..ويتصل كامل الشناوي بأنطون الجميل رئيس تحرير الأهرام..ويروي له قصة هذا الخطاب فيفاجأ برئيس التحرير نفسه وهو يقول له: أن محمد محمود رئيس الوزراء ومحمود فهمي النقراشي وزير الداخلية، وأحمد حسانين الأمين الأول في القصر، من أشد المعجبين ببيرم، وقد سمعت منهم بعض أزجاله وسأتصل بهم وأستأذنهم في نشر هذا الزجل، وبعد ساعتين استدعى أنطون الجميل كامل الشناوي وقال له: – مبروك انشر الزجل في الصفحة الأولى. وكانت هذه أول مرة ينشر فيها الأهرام زجلاً في الصفحة الأولى..وقدم هذا الزجل كامل الشناوي بقوله: إنهم تلقوا هذا الزجل من مجهول وهو بخط بيرم التونسي، وطلب في هذا التقديم العفو عن صاحب الزجل خاصة وأن زجله ملئ بالاستعطاف، وما أن نشر هذا الزجل حتى أصدر وزير الداخلية أمرًا بتجاهل وجود بيرم في مصر.
حياته الصحفية
المسلة والخازوق
 
غلاف أول عدد من جريدة المسلة ويحمل صورة بيرم 4 مايو عام 1919
اختار بيرم لجريدته التي سيصدرها اسم المسلة. وطبع من أول عدد خمسة آلاف نسخة، وكتب بيرم العدد الأول من صحيفة المسلة من الغلاف إالى الغلاف. ونزل بيرم في يوم 4 مايو 1919 ليوزعها بنفسه على المقاهي، وفي محطة الإسكندرية، وعلى الطلبة، وموظفي دواوين الحكومة والتجار. وأصبحت هذه الصحيفة منذ أول أيام صدورها حديث معظم أهالي الإسكندرية، فهي تهتم بمشكلات الناس وتقف بجانب القضية المصرية المناهضة للاحتلال، ولهذا أحبها الناس وتحمسوا لصدورها.
 
كانت «المسلة» في 16 صفحة، على غلافها صورة لبيرم التونسي، واستطاع أن يتغلب على مشكلة تصريح إدارة المطبوعات بأن كتب على الغلاف بدلًا من العدد الأول الجزء الأول بقلم محمود بيرم التونسي (صاحب قصيدة المجلس البلدي). ونشر في غلافها الأخير بياناً بموضوعات العدد القادم من الجريدة التي من بينها: عريضة زجلية مرفوعة من الشحاذين إلى الأغنياء ينادون بإنشاء ملجأ للحرية، ومقالة عن الرشوة والمرتشين ونصائح لأمينة التي لا تعرف ما لها وما عليها، وغير ذلك من الموضوعات التي تخص الجماهير. وفي بداية صفحات العدد الأول زجل سياسي طويل يهاجم فيه الاستعمار الإنجليزي الثقيل الذي لا يريد أن يبارح أرض مصر، والزجل بعنوان «يامتعتع الحجر»، وبعد أن يبدأ فاتحة الزجل بالصلاة على النبي، ووصف حالة الذل والهوان والضيق الذي وصل إليه أبناء الشعب المصري، ينتقل إلى وصف حالة الفلاح المصري وقت الاحتلال بقوله:
 
بيرم التونسي بعت عفشي وبعت ملكي وبعت بابي
والطاحونة والحمار والبطانية
أسأل البنك العقاري وبنك رومة
تعرف المبلغ وشيكات العزومة
والتلم مش طالع إلا بالحكومة
إن كانت تنفع وبالقدرة القوية
قلت أنا في عرضك يا أبو العباس يا مرسي
زحلق البلوة وحق الزيت عليا بيرم التونسي
ولا يقتصر العدد الأول من جريدة المسلة على مهاجمة الاستعمار، ولكن بيرم جعل من نفسه مصلحًا اجتماعيًا، فهاجم المرأة الجاهلة والتربية الخطأ والمظاهر الكاذبة والإسراف فيقول:
 
بيرم التونسي لقد شخص أطباء الأخلاق داء هذه الأمة، فأجمعوا على أن المرأة أصل جرثومته، فأوجبوا تعليم الناشئات ليكن أمهات صالحات لتربية النشء المقبل، إلا أن نساء اليوم يبقين على جهلهن المطبق أو ينقرضن وهذا رأي حسن، وأحسن منه استئصال الداء من أصوله، فنعلم أمهات الحاضر اللاتي يورثن بناتهن جهلاً قد يلحق أحفاد الأحفاد. بيرم التونسي
نجح العدد الأول من الجريدة، فقرر أن ينقل نشاطه الصحفي من الإسكندرية إلى القاهرة، حتى يكون قريبًا من الأحداث، وحتى يتسنى له المشاركة في أحداث البلاد. وظهر العدد الثاني من المسلة في القاهرة، بعد ذهاب سعد زغلول إلى باريس لحضور مؤتمر فرساي لعرض قضية البلاد. ظهر هذا العدد وفيه هجوم شديد على مفتي الديار المصرية الشيخ «محمد بخيت» لمعارضته سفر سعد زغلول واختلافه مع وجهات النظر الوطنية. يتفاءل بيرم في أزجال هذا العدد بسفر سعد والوفد المصري إلى فرنسا لدرجة أنه تصور أن هذا السفر سيحقق حتماً الاستقلال، فكتب في العدد نفسه زجلاً يهنئ فيه مصر بقوله:
 
بيرم التونسي يابت نلت استقلالك..وهل هلالك..جل جلالك..رغم العذول بيرم التونسي
وما أن صدر العدد الثاني من المسلة، حتى ثار الشيخ بخيت وأصدر بياناً يتهم فيه بيرم بالكفر والإلحاد. تولى بيرم مهاجمة الذين يتاجرون بالدين ويرتكبون الجرائم في حق الوطن تحت ستاره، ولهذا ناصبه بعضهم العداء ولقبوه بالمارق، واعتبروا ما يكتبه أشد من الكفر نفسه. ولكنه لم يهتم بهذا الاتهام الخطير، ومضى في طريقه دون توقف، ولم يكتف في صحيفته بمهاجمة الدخلاء على الدين، ولكنه أعلن الثورة ضد كل الأمور المنتقدة الموجودة في مصر..الاستعمار..والعملاء..ورجال القصر الوصوليين..والبلطجية..والعادات الاجتماعية السيئة. وظل مستمرًا في إصدار صحيفته حتى وصل إلى العدد رقم 13، والتي شن بيرم فيه هجوما زجليًا على السلطان فؤاد وابنه فاروق. وعلى إثر ذلك أصدر السلطان أمرًا بإغلاق تلك الصحيفة بلا رجعة. لكن بيرم عانده وأصدر صحيفة أخرى اسمها «الخازوق» والتي صدر منها عدد واحد فقط ثم أغلقت ونفي بيرم بعدها إلى تونس.
 
صحيفة أخبار اليوم
في عام 1950، كانت صحيفة أخبار اليوم تبحث عن أقلام مشهورة تجعلها تقف في وجه المنافسة الحامية بينها وبين الصحف الأخرى ، ولهذا اتصلت ببيرم، وطلبت منه أن يمدها كل أسبوع بزجل اجتماعي، تدفع فيه عشرة جنيهات، ويحتل باستمرار بروزًا عريضًا في الصفحة الأخيرة. ولم يُصدق بيرم هذا العرض في بداية الأمر، إلا عندما استلم بيده ثمن أول زجل كتبه في الصحيفة، فهو لم يتقاض قبل الكتابة في أخبار اليوم أكثر من ثلاثة أو خمسة جنيهات في الزجل الواحد. وكان أول زجل ينشر لبيرم في أخبار اليوم في مارس عام 1950، هو ما كتبه تحت عنوان «فوضى» وفيه انتقد حياة الشعب المصري التي لا تعرف الدقة والنظام والنظافة، فيخاطب في البداية بقوله:
 
بيرم التونسي تقول في بيتنا أو في بيتكم هي هي المشكلة
ستات حاجتها كلها عايشه عيشه هرجله
ستات عجايز أو صبايا فوق بعضها متكتوله
خلوا عقولنا زيهم متشوشه ومتبرجله
درج المعالق يتحشر فيه قطن طبي ومبشره
وعلبة الشاي ياعالم تتركن فوق صندره
فيها مسامير، واسبرين، وجوز شراب ومكحله بيرم التونسي
ويمضي بيرم في كتاباته في أخبار اليوم، شاهرًا سيفه مثل أبطال الأساطير الشعبية، فمثلما كان أبطال السيرة الشعبية يقهرون الشر والظلم بما لديهم من قوة وذكاء وقدرة على التحمل والمثابرة، كان بيرم يمضي في إصرار وعناد، واهبًا قلمه لبتر كل الصفات الرذيلة في المجتمع المصري التي تؤدي إلى الانحراف والخنوع والسلبية والهوان الاجتماعي، فهو يكتب مثلًا عن «النشالين»، «جنون الموضة بين الهوانم»، «أطفال الشوارع». ويتعرض بيرم بأزجاله في أخبار اليوم لكل مظاهر الفساد والاستغلال والرشوة، فيكتب تحت عنوان«خيبة» قائلاً:
 
بيرم التونسي أنا كنت اتمنى أمسك منطقة تموين
سكانها في المية مية عيانين جعانين
واكسب بجرة قلم أربع خمس ملايين
ومن ورايا رئيس يشهد بأني أمين بيرم التونسي
ولم يترك بيرم منحى من مناحي الحياة إلا وانتقده، فنجده مثلًا ينتقد الصحافة النسائية التي تنشر دائمًا أبوابًا للطهو والمأكولات المنزلية، تغالي في أوصافها، مع أنها بعيدة عن متناول المواطن العادي، فكتب تحت عنوان أبلة نظيرة قائلًا:
 
بيرم التونسي أنا اللي للطرشي والجبنة القريش محتاج
توصف لي أبلة نظيرة مخ بالعصاج
ولسان بتلو، يابيه، أو صاندوتش دجاج
إيش خلا أهل البسيطة كل يوم في هياج بيرم التونسي
وكانت كتابات بيرم في أخبار اليوم تتناول قضايا أخرى مثل: الضياع، والسوق السوداء، وفوضى التليفونات، والإيمان بالخرافات، وفضائح التنويم المغناطيسي، والدعوة لمواصلة تطور المرأة، وأزمة المواصلات. وكانت أيضًا كتاباته لا تتجاهل القضايا الثقافية والفلسفية، ولهذا يناقش في أحد أزجاله قضية الاقتباس من الموسيقى الأجنبية، وكيف يبرر الفنان عملية السطو الواضحة على أساس أنها خطوة لتطوير الموسيقى العربية. وفي زجل أخر يناقش قضايا فلسفية، ويظهر ذلك في زجله عن مفهوم الوجودية. ولم يغفل بيرم في كتاباته في أخبار اليوم الجوانب السياسية، من نقد للأوضاع في البلاد في ظل تعدد الأحزاب. فكتب ينتقد هذا الوضع تحت عنوان الهتاف تارة وتارة أخرى تحت عنوان الظلمات. وانتهى مشوار بيرم في صحيفة أخبار اليوم في 18 أغسطس عام 1951 .
 
جريدة الجمهورية
بدأ مشوار بيرم في «جريدة الجمهورية» عام 1955، وذلك بعد تركه لجريدة «المصري»، وكتب فيها في البداية أزجالًا تلفت نظر الثورة إلى الأحوال الاجتماعية التي يجب معالجتها والتصدي لها بصراحة في المجتمع المصري، كما يكتب أيضًا بعض الفوازير التي تشير إلى بعض الأسماء السياسية المنحرفة في بعض الدول العربية. ومن الأزجال التي تلفت النظر في «جريدة الجمهورية» عند بداية اشتغال بيرم بها، تلك التي نشرها تحت عنوان «كفاح الشعب»، وقدم فيها قصة الحملة الفرنسية على مصر في 26 حلقة متتالية. وفي تلك الحلقات وصف لنا بيرم احتلال الفرنسيين للإسكندرية، على طريقة سرد الشاعر الشعبي لسيرة«أبوزيد الهلالي» و«سيف بن ذي يزن» وغيرها. وقال بيرم تعليقًا على عودته إلى السياسة في تلك الفترة:
 
بيرم التونسي عدت إلى السياسة بعد أن زال الطغاة، وقام الجيش بكل ما ناديت به من إصلاح، كما قضى على ما كنت أهاجمه من فساد، فالحمد لله أنني لم أمت قبل أن تتحقق أمالي. بيرم التونسي
بيرم والسياسة
 
أحد الطوابع تحمل صورة بيرم التونسي
كان ميلاد بيرم بعد 11 عاما من دخول الإنجليز مصر، وضربهم الإسكندرية، وقبضهم على عرابي ونفيه. وكان الخديوي عباس حلمي الثاني وقتها حاكمًا لمصر، وكان الأجانب في مدينة الإسكندرية يعاملون أهلها معاملة جائرة، فانجلترا أعلنت صراحة منذ احتلالها لمصر أن حكمها يقوم على أساس رعاية المصالح الأوربية وحمايتها، وكان الخليفة العثماني آنذاك في الأستانة ضعيفًا، حتى فرنسا التي تصور بعض الوطنيين أنها قد تساعد مصر ضد الاحتلال الذي تعيش فيه كانت هي الأخرى لا تمثل قوى يُعتد بها في المجال الدولي بعد أن هزمتها ألمانيا في الحرب الفرنسية البروسية في عام 1870، إلى أن ظهر مصطفى كامل مُطالبًا بالاستقلال.
 
وفي ذلك الوقت، كان بيرم في مرحلة طفولته، فلم يُدرك مدى الظلم الاجتماعي الواقع على كاهل أهل حيه والأحياء المجاورة، إلا أن الصورة البائسة ظلت عالقة في ذهنه ، فقد وصفها بيرم قائلا: «عشت في حي صورة طبق الأصل من عشش الترجمان القاهرية..كنت ترى رجالاً تُرقص القرود..ونساءً يتجولن في الأزقة بمعيز ترعى القمامة..وأطفالاً يجمعون السبارس..وكانت أكثر المباني مؤلفة من عشش الصفيح المرقعة بالخيش والأبراش التي يعلوها الدجاج والمعيز..وكان قسم كبير من هذه العشش يمتد في شارع رأس التين الموصل إلى السراي العامرة حتى يشاهدها السفراء والقناصل في كل تشريفة».
 
بيرم وثورة 1919
 
جانب من المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني
تنطلق شرارة ثورة 1919 بعد اعتقال سعد زغلول وزملائه في 8 مارس عام 1919 ونفيهم جميعا إلى جزيرة مالطة، وتزداد الثورة اشتعالًا في النفوس، وتتأهب الأمة للكفاح، ويسعى بيرم مع أولاد البلد للانضمام إلى صفوف الطلبة والعمال، ويرى أنه يستطيع أن يقوم بدور مهم في صفوفهم لإذكاء الروح القومية بين أصحاب القضية أبناء الشعب، الذين لا يستطيع المستعمر أن يقبض عليهم جميعًا.
 
تضامن بيرم مع طلبة المعاهد الدينية والمدارس الذين قرروا الإضراب في الإسكندرية يوم 12 مارس احتجاجًا على سلطات الاحتلال، ويجتمع معهم في ميدان مسجد أبي العباس المرسي، ويسير في المظاهرات إلى مبنى المحافظة القديم بشارع رأس التين، وكان الهتاف بالحرية والاستقلال، ولكنهم قبل أن يصلوا إلى المكان، خرجت عليهم قوات البوليس تجري خلفهم بالعصا، فقد أصدر جارفز بك حكمدار الإسكندرية، والمستر أنجرام مأمور الضبط أوامر لقوات الأمن بفض المظاهرات تنفيذًا للأوامر العسكرية التي تحرم أي تجمهر. إلا أن المظاهرات في الإسكندرية لم تنقطع، فقد كانوا كلما فضوها بالقوة عادت للسير من جديد في الأيام الأخرى، ويأتي يوم 17 مارس، لتخرج فيه من حي الأنفوشي أكبر مظاهرة شهدتها الإسكندرية آنذاك، ولهذا أحاطتها القوات البريطانية، وحاولت أن تمنعها من مواصلة السير، ولكنها لم تستطع، وعندئذ أطلقت عليها النيران، فاستشهد 16 قتيلًا وأصيب 24 جريحًا من بين طلبة المدارس الصناعية والثانوية والمعاهد الدينية، وأدى هذا الحادث إلى غليان أهالي الإسكندرية، فخرجوا في مظاهرات أشد وأقوى، هاتفة بالحرية والاستقلال. ويعبر بيرم بنفسه ويستطرد في رواية ذكرياته عن تلك الفترة بقوله:
 
بيرم التونسي اشتركت في الثورة على طريقتي الخاصة، لم أقذف بالحجارة، ولم أحطم مصابيح النور، وإنما نظمت مقطوعات، فكانت أشد وأقوى من الحجارة، بل ومن القنابل أيضاً. بيرم التونسي
وأدرك بيرم أثناء اندلاع الثورة أن المستعمر ينهب خيرات بلاده، ويعيدها إلى الناس في صورة بضائع حتى يروج أسواقه فيقول:
 
بيرم التونسي أتركونا ننتفع من خير بلادنا
مش بلادكم، وأسمحوا نسبك حديدنا
مش حديدكم، والسماد عايزين سمادنا مش سمادكم، ياللي ناويين تدبحونا بيرم التونسي
وكان بيرم يرسل قطع زجلية إلى الصحف التي كان يكتب لها مثل«الاكسبريس»، إلى أن أصدر بيرم جريدته«المسلة» التي كان ينشر بها أعماله وقطعه الزجلية.
 
بيرم وثورة 1952
 
استقبال الجماهير للثورة في عام 1952
كان بيرم يوم 23 يوليو 1952 جالسًا على المقهى الذي اعتاد الجلوس عليه بجوار منزله في حارة النواوي بشارع السد البراني، وكان في ذلك الوقت يكتب زجله لجريدة «المصري». إذا به يسمع المذيع في الراديو وهو يعلن خبر قيام ثورة من الجيش في مصر، ولا يملك بيرم نفسه من الفرحة، فيقوم ليهنئ كل الجالسين على المقهى، ويجري بكل قوته إلى الإذاعة المصرية، ليقف أمام الميكروفون، وهو يتنفس لأول مرة من أعماله نسائم الحرية.
 
يقف ليقول للمستمعين زجلًا على نفس وزن بحر الزجل الذي شتم به السلطان فؤاد، ويبدأ هذا الزجل بنفس مطلع الزجل القديم، فيقول:
 
بيرم التونسي العيد ده أول عيد عليه القيمة، مافيهشي تشريفة ولا تعظيمة
صابحين وأعراضنا أقله سليمة، والقيد محطم، والأسير متحرر
مرمر زماني يا زماني مرمر بيرم التونسي
و سخر بيرم قلمه لخدمة الشعب وأغراض الثورة، وعندما حصل بيرم على الجنسية المصرية في عام 1954، فإنه اعتبر ذلك خير رد لاعتباره من جانب الدولة المصرية.
 
من أقواله
تكلم بيرم عن النقد ودوره في المجتمع فقال:
 
بيرم التونسي النقد امتداد للنبوة، ولولا النقاد لهلك الناس ولطغى الباطل على الحق ولامتطى الأراذل ظهور الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال بيرم التونسي
وقد قال يومًا معلقًا على الانحطاط الذي وصلت إليه الأغنية بأن قال:
 
بيرم التونسي الأغنية مدرسة، تستطيع أن تعطينا قيمًا سليمة، أو تدس لنا سمومًا خبيثة، فهي أخطر أداة للنشر في هذا العصر، والمُحزن أنه لا أحد يدرك أو يقدر خطر الأغنية على الناس، لا المؤلف ولا الملحن ولا المطرب بيرم التونسي
وحينما سُئل عن دور الفن في الحياة الفرد قائلًا:
 
بيرم التونسي الفن هو التأثير الوجداني للحياة، والفنان الأصيل هو الذي يعبر في صدق عن عواطفه ومشاعره بيرم التونسي
قال في مصر:
 
بيرم التونسي قومي اقلعي الطرحة السوده يا أم الهرمين.. وركبي الورده الموضة.. بين النهدين.. يا أم الخصال المعبودة.. أنا أحطك فين بيرم التونسي
قال في الشعب المصري:
 
بيرم التونسي يامصري ليه ترخي دراعك.. والكون ساعك.. ونيل جميل حلو بتاعك.. يشفي اللهاليب.. خلق إلهك مقدونيا.. على سردينيا.. والكل زايطين في الدنيا.. ليه إنت كئيب.. ماتحط نفسك في العالي..وتتباع غالي.. وتتف لي على اللي في بالي.. من غير ماتعيب بيرم التونسي
قالوا عنه
قال عنه الكاتب كامل الشناوي: «فنان ثائر، عاش طوال حياته يعاني العرق والقلق، وشظف العيش، وقد يتهيب-خاصة المثقفون- عندنا من الاعتراف به في حين كانت جامعات أوروبا تدرس آثاره وتعترف بموهبته الأصلية وفنه الرفيع». ومدح أحمد شوقي زجل بيرم حيث قال عنه: «هذا زجل فوق مستوى العبقرية». وقال عنه الدكتور طه حسين: «أخشى على الفصحى من عامية بيرم».
 

 

 

اعماله لام كلثوم
انا فى انتظارك
حلم
اهل الهوى
هو صحيح الهوى غلاب
الامل
حبيبى يسعد اوقاته
غنيلى شوى شوى
يا صباح الخير
الورد جميل
الاوله فى الغرام
شمس الاصيل
الحب كده
القلب يعشق كل جميل
يا عين يا عين يا عيني بالدمع وافيني
عمله الوحيد لمحمد عبد الوهاب
محلاها عيشه الفلاح
 
اغانيه الوطنيه
ياجمال يامثال الوطنية
بالسلام احنا بدينا
بطل السلام
بعد الصبر ماطال
صوت السلام
اعماله لفريد الأطرش
احبابنا يا عين
يالله توكلنا
بساط الريح
أكل البلح
يالله سوا
هلت ليالى
مرحب مرحبتين
الليله نور هل علينا
حبيته لكن مبقولش
اشهر مونولوجاته
حاتجن ياريت يا اخوانا مارحتش لندن ولا باريس
يأهل المغنى دماغنا وجعنا
ياحلاوه الدنيا ياحلاوه
ياللى تحب الفن وغاوى
اعماله للاذاعه
سيره الظاهر بيبرس
عزيزه ويونس
أوبريت شهرزاد
قصائده
القرع السلطاني
الباميه السلطاني
هاء هاء وماء ماء
مجرم ودون
فتوى
الكعك
الفساتين
الخدامة
أعوذ بالله
الشرق
العيون
المركب
الورد
بخمسين قرش
ربا وسكينة
صدفه
مدارسنا ومدارسهم
يا أهل السودان ياعرب
الأرض
الصنم
الغش والغلا
الموميا
أنا في انتظارك
بدنجان
ح تجنن
ظلموني الناس
فنان الشعب
من يوم مابقينا بشناب
ياورد استنظرك
التغريبة
الضرائب
الفلاح
النشال
باريس
تنويعات
حياتى
شوفي لنا بنت حلال
عتاب
في الطريق
مناجاه
الجماهير
العامل المصري
المجلس البلدي
الواسطه لسا شغالة
باريس خلاص
رأس المال
شوقي
عزرائيل
قصائد من بيرم
نسوان
دوله الاخوانجية
جوايز
جايزه الدوله التقديريه لسنه 1960
 
فيلموجرافيا
تأليف (14 عمل)
 
1. عنتر بن شداد فيلم 1961 قصه وسيناريو وحوار
 
2. الفارس الاسود فيلم 1954 سيناريو وحوار
 
3. السيد البدوى فيلم 1954 مؤلف
 
4. غرام بثينة فيلم 1953 قصه وسيناريو وحوار
 
5. وهيبه ملكه الغجر فيلم 1951 قصه وسيناريو وحوار
 
6. الصقر فيلم 1950 قصه وسيناريو وحوار
 
7. اسير العيون فيلم 1949 قصه وسيناريو وحوار
 
8. ورد شاه فيلم 1948 مؤلف
 
9. أحكام العرب فيلم 1947 قصه وسيناريو وحوار
 
10. راوية فيلم 1946 قصه وسيناريو وحوار
 
11. عنتر وعبلة فيلم 1945 قصه وسيناريو وحوار
 
12. السوق السوداء فيلم 1945 قصه وسيناريو وحوار
 
13. رابحه فيلم 1943 قصه وسيناريو وحوار
 
14. الشريد فيلم 1942 قصه وسيناريو وحوار
 
موسيقى (19 عمل)
 
1. اميره..حبي أنا فيلم 1974 كلمات “شهرزاد”
 
2. الفارس الاسود فيلم 1954 كلمات الاغاني
 
3. غرام بثينة فيلم 1953 كلمات الاغاني
 
4. دهب فيلم 1953 الألحان
 
5. خدعنى أبى فيلم 1951 كلمات الاغاني
 
6. الصقر فيلم 1950 كلمات الاغاني
 
7. اخر كدبة فيلم 1950 أوبريب بساط الريح، مانخبيش عليك
 
8. أحبك أنت فيلم 1949 كلمات الاغاني
 
9. فتاه من فلسطين فيلم 1948 كلمات الاغاني
 
10. نرجس فيلم 1948 كلمات الاغاني
 
11. ليت الشباب فيلم 1948 كلمات الاغاني
 
12. بلبل أفندى فيلم 1948 الألحان
 
13. القاهره بغداد فيلم 1947 كلمات الاغاني
 
14. عوده طاقيه الاخفاء فيلم 1946 كلمات الاغاني
 
15. عنتر وعبلة فيلم 1945 كلمات الاغاني
 
16. ليلى بنت الفقراء فيلم 1945 كلمات الاغاني
 
17. نادوجا فيلم 1944 كلمات الاغاني
 
18. حياه الظلام فيلم 1940 تأليف اغنيه كل شئ جميل
 
19. يوم سعيد فيلم 1938 كلمات الاغاني

اعلان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى