القسم الديني

وكم لله من ألطاف عجيبة بين عباده

بقلم د/ محمد بركات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
إن من يتأمل ألطاف الله في كونه وبين عباده يتملكه العجب العجاب بين الحين والآخر.
فابتلاء الله تعالي لعباده يقع في دائرة تبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر.
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع)
حقا ..ما أجمل العودة إلي الله والتمسك بمنهجه..
وما أعظم رد الأمور والأقدار كلها إلى الله وبذل الذل و التوية والانكسار ليرفع الضراء ويديم السراء ويعافي ويستر.
فإن الله يبتلي ليرفع العبد درجات أو ليكفر عنه السيئات و كلا الأمرين خير للمؤمن المحتسب.
ولذلك العاقل من يسأل الله العافية ويتدبر في ذلك الآيات وعقيدته أن اصبر واحتسب وسله الثبات ولا تنس سؤال العافية ودوامها وسؤاله التوفيق للشكر عليها.
وتذكر أن من أسماء الله الحسنى العظيمة ؛
{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:- حفيٌ بهم.
وقال عكرمة رضي الله عنه:- بار ٌبهم.
وقال السدي رحمه الله:- رفيق بهم.
وقال مقاتل رحمه الله:- لطيف بالبر والفاجر
وهذا نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام مر بمراحل ابتلاء عظيمة ورأى لطف الله فيها.
مر بفتن وبلايا ومحن متتابعات ومع ذلك يقول: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
واعلم أن كل داء له دواء وكل هم بعده فرجا وكل ضيق بعده مخرجا وكل عسر بعده يسرى وكل محنة تحمل بين طياتها منحة.
فإذا ابتليت بوباء وبلاء وفتنة ومصيبة فانظر إلى لطائف الله فستجدها كثيرة وانظر إلى من أصيب بأشد من مصيبتك حتى تعرف نعمة الله عليك.
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}
ومن مظاهر لطف الله في نزول الابتلاء :
١- أن الله لم يجعله دائماً لكن رحمة الله ولطفه تتغشاك فسرعان ما يزول ويكون لك الأجر.
٢- أن الله قد أعطاك ومنحك الصبر مع الأجر فينزل البلاء بك وتصبر ولك الأجر.
٣- أن الله قد فتح لك أبواب الدعاء والرجاء والتضرع وكثرة الذكر والخيرات والبركات والبذل والصدقات.
٤- من لطف الله في هذا الوباء أن الله سخر لك من يقوم بك ويخفف عنك من المختصين والمهتمين وذوي الخبرات الكافية فأرشدهم للرأي السديد وأخذ التدابير وسخر لهم الإمكانيات والقدرات وأعانهم ووفقهم.
٥- ومن تمام لطف الله بك أن جعلك في معيته وإرادته فيخفف عنك ولك ما أعده لك من الخير والمثوبة والأجر العظيم.
٦- ومن اللطائف أن الله رزقنا الثبات والطمأنية واليقين والصبر والحلم والرضا والتسليم بقضاء الله وقدره وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطئنا لم يكن ليصيبنا.
٧- ومن لطف الله استشعارنا لعظمة الله وقدرته في كونه لتعلم من عظيم قلبك أن الله على كل شيء قدير.
٨- قف في الحقيقة علي أبعاد نفسك دون تكلف، ولتعلم أن الله هو الذي خلق الداء وهو الذي يخلق الدواء ويسبب الأسباب ويخلق المسبب وجعل لكل شيء سببا .
٩- ولتعلم أن الله لا يقضي لعباده إلا بما فيه رحمة وحكمة، فكم من اللطائف والرحمات الكثيرة والحكم العديدة في هذا الوباء الذي ابتلى الله به عباده ليعرفهم به وليردهم إليه فمن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة.
يا الله… ما أعظم لطف الله في كل بلية ومصيبة.
ولطائف الله في هذا الوباء وفي كل بلاء تظهر في قوم أكثر من غيرهم وقد يظهر لطف الله عندك أكثر من غيرك ولطفه واسع ورحمته واسعة وعطاؤه واسع، { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما }.
لا تكثر من التسخط والتضجر والتأفف وأنظر إلى جوانب لطف الله فإنه يخفف حدة التسخط.
وقف على حقيقة التأمل في لطف الله يهون الأحزان ويزيل غبار اليأس ويعقم القلب من أدران الشك والقنوط.
التوكل على الله والفأل وحسن الظن به والإنابة والتضرع إليه تجعل القلب يتأمل أكثر في لطائف الله ويغلق حال المصيبة النوافذ السلبية ويفتح نوافذ لطف الله ورحمته وفضائله ومننه وعطاءه ورب ضارة نافعة.
فعندما نتأمل لطائف الله في وقوع البلاء والابتلاء تقف علي حقيقة ضعف نفسك أيها الإنسان، فلايعني انتفاء المتاعب والمشاق وانعدام المعاناة فنحن جزء من هذا العالم والوباء عام والمخاوف موجودة والمعاناةواقعة ولكن النظر في لطف الله هو حال المؤمن العارف بالله مع المصائب وذلك مما يهونها ويزيده صبرا وثباتاوأنساً بذكر هذه اللطائف.
لطائف الله كثيرة اللهم اجعلنا عن البلاء من الصابرين وعند النعماء من الشاكرين.
وحقا..عجبا لأمر المؤمن – عَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ رضي الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ.
(رواه مسلم)
قال الله تعالى:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
[سورة البقرة، الآية:155-157].
جاء في تفسير الإمام ابن كثير رحمه الله:
أخبر تعالى أنه يبتلي عباده [ المؤمنين ] أي : يختبرهم ويمتحنهم ، كما قال تعالى : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم )
[ سورة محمد، الآية : 31 ]
فتارة بالسراء ، وتارة بالضراء من خوف وجوع ، كما قال تعالى : ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف )
[سورة النحل، الآية : 112 ]
فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ; ولهذا قال : لباس الجوع والخوف . وقال هاهنا ( بشيء من الخوف والجوع ) أي : بقليل من ذلك ( ونقص من الأموال ) أي : ذهاب بعضها ) والأنفس ) كموت الأصحاب والأقارب والأحباب ) والثمرات )
أي : لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها . كما قال بعض السلف : فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة . وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده ، فمن صبر أثابه [ الله ] ومن قنط أحل [ الله ] به عقابه .
ولهذا قال : ( وبشر الصابرين )
وقد حكى بعض المفسرين أن المراد من الخوف هاهنا : خوف الله ، وبالجوع : صيام رمضان ، ونقص الأموال : الزكاة ، والأنفس : الأمراض ، والثمرات : الأولاد .
وفي هذا نظر ، والله أعلم .
وقال العلامة السعدي رحمه الله:
“وفي الآية، دليل على نعيم البرزخ وعذابه، كما تكاثرت بذلك النصوص. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
حيث أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن، ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} من الأعداء.
{وَالْجُوعِ} أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك.
{وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ} وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية، وغرق، وضياع، وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة، وقطاع الطريق وغير ذلك.
{وَالأنْفُسِ} أي: ذهاب الأحباب من الأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه، {وَالثَّمَرَاتِ}
أي: الحبوب، وثمار النخيل، والأشجار كلها، والخضر ببرد، أو برد، أو حرق، أو آفة سماوية، من جراد ونحوه.
فهذه الأمور، لا بد أن تقع، لأن العليم الخبير، أخبر بها، فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع، حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان.
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط، قولا وفعلا واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
فالصابرين، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.
{قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد، علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك، الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجع إليه، من أقوى أسباب الصبر.
{أُولَئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: ثناء وتنويه بحالهم {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ومن رحمته إياهم، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع، علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.
ودلت هذه الآية، على أن من لم يصبر، فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة، والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين، وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، لتخف وتسهل، إذا وقعت، وبيان ما تقابل به، إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر، بضد حال الصابر.
وأن هذا الابتلاء والامتحان، سنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تبديلاً وبيان أنواع المصائب”.

إلهي نعمتني فلم تجدني شاكرا وابتليتني فلم تجدني صابراً ، فلا سلبت النعمة بترك الشكر، ولا أدمت الشدة بترك الصبر… إلهي لا يكون من الكريم إلا الكرم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى