الوطن بين الجرح والحرية

بقلم: نور شاكر
أيها الوطن المصلوب على أكتاف الطغاة، أيها الجرح المفتوح منذ قرون، يا أرضًا شربت من دماء أبنائها حتى ارتوت بالوجع… ناديتهم بالعدل فأجابوك بالقسوة، وطلبت منهم الكرامة فأغرقوك في الذل، مددت لهم يدك بالخير فأمسكوا بها كالسارق، يقتطعون منها ما استطاعوا ثم يتركونك عاريًا، منهكًا، يلهث وراء سرابٍ من وعودهم الباهتة
وسقيتم ترابها بدماءِ الفقير الذي لم يجد منكم سوى الوعود الكاذبة، فصار جسده ثمنًا لعروشكم، وصار صبره سلّمًا تتسلقون به إلى قصوركم. جعلتم من صرخاته نشيدًا لمآتمه ومن جوع أطفاله وقودًا لمواقدكم، وكأن الوطن لم يُخلق إلا ليكون مائدةً لشراهتكم التي لا تشبع…
نهبتم خزائن الوطن كما ينهب اللص بيتًا مهجورًا، كأنّ الشعب غائبٌ أو ميتٌ في سباته بينما أنتم تقيمون حفلاتكم على أشلائه وتشيّدون قصوركم من بؤسه، وتحيطونها بأسوارٍ من أموالٍ مسروقة لم تشعروا يومًا بحرّ الصيف الذي يلسع وجوه الفقراء، ولا ببرد الشتاء الذي يتسلل إلى عظامهم، ولم تذوقوا الخبز اليابس الذي يقتاتون به في لياليهم الحالكة
تربعتم على الكراسي، شامخين كأبراجٍ من طين، متعاظمين كأنكم خُلقتم من غير ما خُلق منه الناس، تظنون أنفسكم فوق الجوع وفوق الموت وفوق الفناء، كان الشعب يُساق كقطيعٍ مثقلٍ بالركام، يجرّه العوزُ إلى الهوان ويقوده الخوف إلى الصمت صمتٌ ثقيلٌ ظننتموه طاعةً، وغفلةً، وخنوعًا لكنكم لم تدركوا أنّ الصمت ليس أبديًّا، وأن الجوع لا يورث إلا الغضب، وأن الدم المسفوح لا ينام بل يظل يصرخ في الأرض حتى يسمعه كل غافل، ويوقظ به كل نائم
يا سادةً لم يعرفوا من الوطن إلا عروشًا ومناصب، ولم يتذوقوا من طين هذه الأرض إلا ما صنعوا به تماثيل لغرورهم، يا من اعتقدتم أنّ الأرض ملك لكم وأن التاريخ يكتب بأقلامكم، أنتم مخطئون. التاريخ لا يخلّد قصورًا ولا يرفع شأن جلّاد، بل يكتب بدماء الشعوب وعرقها، ويصوغ حروفه من أنين المظلومين وصبرهم
ستسقط كراسيكم يومًا كما تسقط الأبراج من أول ارتجاجة، وسيتحوّل طين غروركم إلى وحلٍ يبتلعكم، ولن يجدكم الناس حينها سوى ذكرى سوداء في ذاكرة وطنٍ عانى منكم أكثر مما عانى من الغزاة. فالشعوب حين تنهض، لا تبقي ولا تذر، وحين تصرخ، تهزّ الأرض من تحت أقدام الطغاة
وتقتلع عروشهم كما تُقتلع الأشجار اليابسة من جذورها. وما بين لحظةٍ وأخرى، يتحوّل صمت الجماهير إلى طوفان، وجوعها إلى نار ودموعها إلى سيوفٍ ماضية
وحين تنفجر ساعة الحساب، لن تحميكم أسواركم، ولن تنقذكم جيوشكم، ولن يجدكم التاريخ إلا عبرةً للأجيال، وصفحةً سوداء تُطوى بدماء الأبرياء
أما الوطن… فسيبقى، لأن الشعوب لا تموت ولأن الأرض التي رويت بالدم لا تعطي إلا ثمار الحرية، مهما طال ليلكم، ومهما تجبّرتم في ظلامكم



