المقالات والسياسه والادب
حيث يضحك العقل يبكي القلب بالممر الخمسين

بقلم / محمد جابر
كاتب صحفي
ولجت إلى الممر الخمسين وأنا أحمل في صدري سؤالا يؤلمني فكلما رأيت الوجوه تمر صامتة والأرواح تمضي منهكة والعقول قد أغلقت أبوابها شعرت وكأن كل شيء قد صار مباحا وكل باطل أصبح مألوفا وكل زيف وجد لنفسه مكانا بيننا
وقفت بجوار أول عابر وسألته أما تعبت من الصمت ألا ترى كيف تسللت الأمراض إلى المنابر وكيف صعد الزيف وارتفعت الأصوات التي لا تقول شيئا كيف أصبحت التفاهة عنوانا والسطحية منهجا والتصفيق لغة العصر
نظر إلي وقال وماذا عسانا أن نفعل نحن لا نملك إلا الصمت وأحيانا لا نجد حتى الكلمات
قلت له ولكننا إن صمتنا كانت تلك مباركة وإن شاهدنا فتلك مشاركة وإن تغاضينا كنا جزءا من العقدة التي نشكو منها بل وأصبحنا من أهم أدوات هذا المشهد المقزز
مضيت قليلا فوجدت شابا قلت له كيف ترى ما يحدث ألسنا نحن من يزين العلل ويغض الطرف عن التشوه ويمنح المرض وجها حضاريا فقط لأننا اعتدنا المشهد
قال لي لقد تعب الناس من الحديث ولم يعد فيهم من يقوى على المواجهة الحقيقة أصبحت مرهقة والوعي صار ترفا لا يقدر عليه كثيرون
قلت ولكن الترف الحقيقي هو أن نعيش بلا وعي أن ننام في قلب العاصفة أن نضحك والحق يذبح أمام أعيننا أن نصمت والباطل يعلو يوما بعد يوم
على الرصيف الآخر كانت سيدة تتابع وتضحك فاقتربت منها وسألتها هل تعتقدين أن ما تشاهدينه يضيف شيئا لعقلك
قالت لي دعنا نضحك قليلا فما عاد في العمر متسع للحزن
قلت لها وهل نضحك على حافة السقوط وهل نفر من الوعي لأنه متعب وهل صار الضحك هو ملاذنا الوحيد من مواجهة أنفسنا
تركتني ومضت ومضيت أنا أفتش في الوجوه عن إجابة عن موقف عن شيء مختلف عن رغبة حقيقية في التغيير
تجمعت مجموعة من الشباب يناقشون شخصية يعرفها الجميع شخصية تتكرر في الممرات وتتشكل كل مرة بوجه مختلف ولكنها تحمل ذات السمات ذات النمط ذاته الخلل تجمع لأمراض نفسية وتجمع فاقدي الثقافة في منتديات الثقافة
سألتهم هل تظنون أن المشكلة فيهم أم فيمن يصفق لهم ويمنحهم قداسة لا يستحقونها سيحاسب كل من ساهم في اعتلائهم مقاعد لا يستحقونها ودوما أقولها وسأظل أقولها الرهان على الوعي مسار لا محاكاة
وهنا صرخت بأعلى صوت نحن صنعناهم بأيدينا ثم تركناهم يعبرون فوق رؤوسنا وحين تمردوا علينا صرنا نشكوهم وكأننا لسنا من وضعهم في مكانهم
ولكن هل ما زال لنا حق الشكوى ونحن من زرعنا وسقينا وصفقنا وصمتنا وكنا جزءا من المشهد بل كنا العرض ذاته.
قال آخر ولكننا لم نجد بديلا لم نجد من يستحق أن يكون الرمز أو الصوت أو النموذج
قلت بل وجدنا ولكننا خذلناهم تجاهلناهم لم نصفق لهم لأنهم لم يسايروا اللعبة لأنهم اختاروا الحق دون بهرجة والصدق دون تمثيل فبدوا صامتين وسط الضجيج فصوت الزيف أعلى ومحبو التفاهة كثيرون
تابعت سيري حتى وجدت شابا يجلس وحيدا ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شيء ضائع سألته ما الذي تنتظره هنا
قال أبحث عن نفسي لا أراها وسط هذا الزحام كلما حاولت أن أجدني تاهت ملامحي بين الأصوات المرتفعة والوجوه المتشابهة
قلت له حين تجد نفسك تمسك بها جيدا لا تفرط فيها لا تساوم لا تساير لأنك حين تكون حقيقيا في زمن الزيف فأنت البداية لأنك حين ترفض أن تكون خشبا مسندا فأنت النور في ممر أطفئت فيه المصابيح
نظر إلي وقال وهل يكفي أن أبدأ وحدي
قلت بل يجب أن تبدأ وحدك لأن الممر الخمسين ليس نهاية بل هو وقفة فاصلة نقف فيها لنسأل أنفسنا هل ما زالت الفرجة ممكنة هل ما زال الصمت مبررا هل نبقى نندب حالنا ونحن جزء من الخراب أفيقوا لم يعد هناك متسع
قال لي أشعر أنني أتنفس الآن كأنني كنت غائبا عني
قلت وهذا هو الوعي أن تعود إليك أن تدرك موقعك أن ترى نفسك وسط الضباب أن تقول لا حين يصمت الجميع أن تمشي عكس التيار لأنك مؤمن بأن التيار هابط
رفع رأسه ومشى معي دون أن يتكلم فقد أدرك أن الممر الخمسين كان بوابة عبور وأن الوعي وإن تأخر لا يموت وأن البداية دائما تحتاج من لا يخاف ليصل إلى الممر الواحد والخمسين
