المقالات والسياسه والادب

رصاصة مؤجلة بقلم محمد بايزيد

رصاصة مؤجلة

في يوم لا يُنسى، حين استلمت شهادة البكالوريا، شعرت أن أبواب الدنيا تُفتح أمامي .

مر يوم ليس كمثل كل الايام ولا يمكن أن تقارن فرحته بأي فرحة , وحين حلول الليل وبعد أن إنتهى عرس النجاح ولأني أحسست ببعض التعب لجأت إلى فراشي وبسرعة غفوت. وفي ما يرى النائم وجدتني في ميدان حرب. كنتُ القائد، وزملائي الذين نجحوا معي يصطفون خلفي، كانت على وجوههم ابتسامة فخر يحسها كل من ينظر إليهم . كانوا يطلقون النار بلا خوف، فيما كان سلاحي يثقل بين يديّ، كأن الأرض تشدّه إليها بألف سلسلة. حاولت، لكنني لم أقدر. نظراتهم اخترقتني كالسهام، والهمزات تساقطت من خلف ظهري كحجارة. وفي قلب المعركة، كنتُ أنا المهزوم الوحيد.

استيقظتُ مذعورًا، وفي داخلي يقين خفيّ: أن الطريق القادم لن يكون معبّدًا بالورود. تجاهلت الحلم، وانشغلتُ بالتحضير للجامعة، كأنني أركض نحو مستقبل من نور. لكنّ الأيام كشفت وجهها سريعًا؛ الفقر كان العدو الأول، يقطع عني المسافات ويكسر جناحي.

كنتُ الأوّل بين رفاقي، والأوّل أيضًا في السقوط. وقعت في أول عثرة لي، وكانت قاسية عليّ ، وسمعت الضحكات من حولي: كيف ينهزم المتفوق؟ كانت كلماتهم سياطًا، دفعتني إلى الانزواء. ابتعدت عن الناس وجلست وحدي أغلب الوقت , كنت أفضل عزلتي على أي كلمة قد أسمعها أو نظرة شفقة . لم يرافقني أحد سوى الكتب؛ هي وحدها التي كانت تصغي ولا تدين، تؤنس ولا تخون.

لكن القدر لم يكتفِ بذلك. في سنتي قبل الأخيرة، حلّ المرض كضيف ثقيل. انطفأت أنفاسي، شعرت أن العمر يتسرّب من بين أصابعي. في سنة واحدة تغير شكلي، وظهرت ملامح الكبر على وجهي وغزا الشيب رأسي . كل صباح كنت أستيقظ مثقلاً باليأس، وكأن الحياة تنسل ببطئ مني .

غير أن شيئًا في داخلي تمرد. ربما هي بقايا الحلم القديم، أو ذلك السلاح الذي لم يُطلق. أدركت فجأة أن الحرب لم تكن ضد أعداء خارجيين، بل ضد نفسي المتهالكة. أن الانتصار لم يكن في الشهادة ولا في المراتب، بل في القدرة على النهوض بعد كل سقطة.
بدأت أزحف من تحت الركام. بدأت أتعافى ببطء، بالصبر والتماسك. ومع كل يومٍ يمر، كان إيماني يزداد بأن ما يكتبه الله، مهما بدا قاسيًا، يخفي حكمة لا نراها. حتى جاء اليوم الذي وضعتُ فيه الشهادة بين يدي، أثقل وزنًا من كل الإنجازات السابقة.
ولأن رحمة الله واسعة، كان التوظيف ينتظرني مباشرة. بينما ظلّ بعض من سبقوني بالتخرج يطرقون الأبواب أعوامًا. يومها تذكرت الحلم القديم السلاح الذي لم أستطع أن أرفعه. ابتسمت. لم يكن عجزًا، بل إشارة؛ إلى أن أدرك أن جهدي لم يذهب سدى، بل جاء وقته أخيرًا.
اليوم، حين أقف أمام طلابي وأرفع قلمي، أشعر أنني أطلق النار أخيرًا. لكن صوب الجهل لا صوب البشر. تعلمت أن العودة بعد السقوط ليست سهلة، لكنها ممكنة ، و أن المشكل أبدا ليس في السقوط , لكن في عدم القدرة على النهوض بعد السقوط . وأدركت أن الانكسار قد يكون طريق كي نصير أقوى، ونفهم أن الخيبة لم تكن يومًا نهاية، بل بوابة نحو معنى آخر للحياة.
بقلم الأستاذ محمد بايزيد
رصاصة مؤجلة بقلم محمد بايزيد

مقالات ذات صلة