المقالات والسياسه والادب

دورة الخذلان من الاستغلال إلى النكران

 

كتبت/د/ شيماء صبحى 

دورة الخذلان: من الاستغلال إلى النكران

في أعماق العلاقات البشرية، تسكن دوائر خفية من الألم لا تُرى، لكنها تُعاش، وتبدأ أحيانًا بخيط رفيع من الثقة يتحول ببطء إلى حبل من الخذلان. تمر بعض العلاقات بأربعة مراحل قاسية:

الاستغلال ➝ الاستغفال ➝ الاستغناء ➝ نكران الجميل

وكأن الشخص المُحب يُستهلك روحه شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى منه إلا بقايا خائبة.

 ١. الاستغلال: حين تُختزل إنسانيتك في منفعة

الاستغلال هو أول أبواب الظلم في العلاقة. أن تكون مهمًا فقط وقت الحاجة. أن تُقدَّر بقدر ما تعطي، لا بقدر من تكون.

يراك الطرف الآخر وسيلة، لا غاية.

يستفيد منك عاطفيًا، ماديًا، نفسيًا… ثم لا يرى فيك شخصًا بل أداة.

 تحليل نفسي:

المستغِل غالبًا شخصية نرجسية أو انتهازية.

يرى الناس من منظور “ما سأجنيه منهم”.

يعاني من فراغ داخلي، ويبحث عن من يملأه بلا مقابل.

 مثال واقعي:

فتاة تبذل كل ما بوسعها في علاقة عاطفية، تعطي، تصبر، تسامح… حتى تكتشف في النهاية أنها لم تكن أكثر من “مرحلة مؤقتة” في حياة الطرف الآخر.

 ٢. الاستغفال: حين يُسخَّف عقلك ويُستخف بوعيك

بعد أن ينال منك ما يريد، يبدأ في تضليلك.

يكذب ويخفي ويتلاعب.

يجعلك تشك في نفسك وتبرر له أخطاءه.

يضعك في حالة “إنكار” وتغافل قسري.

 تحليل نفسي:

هنا تبدأ الغازلايتنج (Gaslighting)، وهي عملية نفسية لتقويض ثقة الشخص بنفسه.

يُسقط عيوبه عليك، ويشعرك أنك السبب في كل المشاكل.

 مثال واقعي:

صديقة تقول لك: “انتي حساسة بزيادة”، بعد كل مرة تجرحك فيها. ليست المشكلة فيك، بل في طريقتها المؤذية.

 ٣. الاستغناء: نهاية مؤقتة بطابع دائم

الطرف الآخر يُقرر أن “ينتهي دورك”.

بلا مبررات، يبتعد.

لا يقدّر ما فعلته.

يتجاهلك وكأنك لم تكن.

 تحليل نفسي:

الاستغناء في هذه الحالة يدل على انعدام التعاطف، وربما وجود اضطراب في الشخصية (مثل الشخصية النرجسية أو السيكوباتية).

يشعر بأنك لم تعد تخدم أهدافه، فيتخلى.

 مثال واقعي:

شخص يقول لك: “أنا محتاج وقت لوحدي”، ثم تكتشف أنه بدأ علاقة جديدة فورًا بعدك.

 ٤. نكران الجميل: طمس للتاريخ والمواقف

هنا تأتي الطعنة الكبرى.

لا يذكر خيرك.

يُلغي كل ما قدمته.

وربما يهاجمك ويشوّهك أمام الآخرين.

 تحليل نفسي:

النكران هو آلية دفاعية لإسقاط الذنب من النفس.

قد يكون أيضًا وسيلة لتبرير أفعاله الخاطئة أمام نفسه والناس.

 مثال واقعي:

أحدهم يقول عنك: “ماعملتش معايا حاجة”، رغم أنك كنت سندًا له في أصعب لحظاته.

 لماذا نقع في هذه الدورة المؤلمة؟

لأننا نحب أكثر مما يجب، ونعطي بلا شروط، ونغفر بلا توقف.

لأننا نصدّق أن النية الطيبة تكفي وحدها لتجعل الآخر جيدًا.

ولأن البعض لا يرى في طيبتك إلا ضعفًا، ولا في عطائك إلا واجبًا، ولا في حبك إلا فرصة للاستنزاف.

الحلول النفسية والتحصين الداخلي

1. ضع حدودًا واضحة من البداية

لا تسمح لأي علاقة أن تكون مفتوحة على كل الاتجاهات دون سياج نفسي يحميك.

2. راقب الأفعال لا الأقوال

لا تنخدع بالكلام الجميل، بل لاحظ كيف يُعاملك فعلًا.

3. تعلّم فن الانسحاب المبكر

إن شعرت أنك مجرد وسيلة، لا تنتظر الطعنة. غادر بهدوء وكرامة.

4. لا تعتذر عن طيبتك، لكن لا تفرّط بها

الطيبة ليست ضعفًا، لكن يجب أن تكون مصحوبة بالوعي.

5. رمّم نفسك بعد كل خذلان

لا تسمح لخيبة واحدة أن تفسد ثقتك في الحياة، لكن اجعلها درسًا.

 من نور الوحي: آيات وأحاديث

 قال تعالى: “هل جزاء الإحسان إلا الإحسان”

[الرحمن: 60]

من يُقابل الإحسان بالجحود، لا يظلمك فقط بل يُخالف سنن الله.

 وقال تعالى:

 “ولا تنسوا الفضل بينكم”

[البقرة: 237]

حتى في نهاية العلاقات، يبقى الفضل والجميل محفوظًا في ميزان الله.

 وقال النبي ﷺ:

 “من لا يشكر الناس لا يشكر الله”

[رواه الترمذي]

نكران الجميل علامة قسوة قلب، وبعد عن الأخلاق النبوية.

 الخلاصة:

في كل علاقة تمر بدورة الخذلان، هناك لحظة يجب أن تقول فيها: “كفى”.

ليس لأنك قسوت، بل لأنك أخيرًا رأيت الحقيقة.

ولأن نفسك تستحق أن تُحاط بمن يرى قيمتها، لا بمن يستغلها… ثم ينكر وجودها.

مقالات ذات صلة