المقالات والسياسه والادب
حكاية كفاح انتهت بصمت بقلم د. تامر عبد القادر عمار

حكاية كفاح
في وطنٍ يضرب فيه الفقر جذوره في بيوت الكادحين، وتتشكل الأحلام من فتات الرغيف، خرجت فتيات المنوفية صباح ذلك اليوم كأشجار سنديان صغيرة، مفعمات بالحياة، مثقلات بالمسؤولية، يمضين في طريقٍ غير معبّد، لا بالحجارة، بل بالتعب.
لم يكن خروجهن إلى العمل “ترفًا”، ولا قرارًا “كماليًا”، بل كان نابعًا من قلب بيتٍ يعرف أن الحياة في هذه البلاد لا تُمنح، بل تُنتزع بالكدّ والعرق والسعي المستمر. هنّ بنات مصر الحقيقيات، اللاتي لم يقفن في ممرات “مولات” العاصمة يتحدثن عن الموضة، بل خرجن في فجر اليوم ليكُنّ عونًا لأهلهن، وليساهمن، بما تيسّر، في سد حاجة البيت.
هن طالبات في كليات مرموقة:بعضهم في هندسة، آداب، ومع ذلك، لم يشغلن أنفسهن بالمظاهر، لم يُدلين بعلمهن، لم يرفعن أنوفهن.
بل نزلن للعمل بأجر يومي بسيط، في حقول ومزارع ومصانع، جنبًا إلى جنب مع الأمهات، فقط لأن “البيت محتاج”، ولأن في القرية كل فرد عليه أن يكون عمودًا في سقف العائلة.
أي عظمة هذه؟ وأي تربية تلك التي تجعل من طالبة جامعية نموذجًا في التواضع، والبرّ، والمسؤولية؟
هل سمعتم عن فتاة تدرس الهندسة وتجمع الخضراوات في الصباح؟
هل رأيتم من قبل طالبة في كلية الآداب تترك الكتاب مؤقتًا لتحمل أثقال الأرض من أجل أسرتها؟
هؤلاء لسن فتيات عاديات… بل قناديل تضيء وجه هذا الوطن البسيط، الذي غالبًا ما ينكر من يضيئونه.
نعم، كانت الفاجعة في الحادث على الطريق الإقليمي، الذي صار شاهدًا على سقوط زهرات لم تتفتح بعد.
لكن ما يُؤلم أكثر أن هذه الأرواح النقية لم تجد طريقًا آمنًا يُقِلّها، ولا وسيلة نقل تحترم آدميتها، وكأن قدر الفقراء أن يُدفنوا تحت حديد السيارات، بعد أن دفنهم الصمت والإهمال لسنوات.
الميكروباص لم يكن فقط وسيلة نقل، بل كان تجسيدًا لفقرٍ منسيّ، وفجوةٍ في العدالة، وجُرحٍ في القلب ما زال ينزف.
نحن نؤمن، بل نوقن، أن من خرج في سبيل لقمة شريفة، وسُلبت روحه وهو في طريق العطاء، فهو شهيد بإذن الله.
هؤلاء البنات اللاتي تحمّلن مسؤوليات تفوق أعمارهن، وسعين بقلوب طاهرة وأقدامٍ متعبة، هن الآن في مكانٍ أنقى، حيث لا تعب، ولا خوف، ولا طريق محفوف بالموت.
في الجنة، لن يحتجن للركض وراء الرزق، فالله الكريم أعدّ لهن ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
لكن من بقينا هنا… لنا واجب، وعلينا مسؤولية.
رسالة إلى سائقي الطرق: أنتم أمناء على الأرواح
إلى كل سائق يحمل أرواحًا بين يديه،
انتبه… ركز… قف عند كل إشارة…
فالمقود الذي بين يديك قد يكون فاصلاً بين حياة وإنهاء حياة.
ليست السرعة بطولة، وليست المخاطرة فهلوة، وليست العجلة رزقًا.
وراء كل راكب أم تنتظر، وأب يترقّب، وأخت تصلي… فلا تخذلهم.
وإذا كان الخطأ قَدَريًا، فالإهمال جريمة.
فكل نفس تُزهق بسبب تهور أو إهمال، ستسألون عنها يومًا.
فأين نحن من هؤلاء الفتيات؟
ماذا قدمنا لهن؟ هل كانت لهن وسيلة نقل آمنة؟ هل وجد أهلُهن دعمًا يُغني عن نزول بنات في عمر الزهور للعمل؟
بل أكثر من ذلك… هل رفعنا لهن راية الفخر، أم تركناهن يُدفنّ في صمتٍ دون أن نحتج أو نتحرك؟
ليس المطلوب أن نرثي، بل أن نُعيد الحسابات.
أن تُراجع الدولة سياسات النقل والسلامة، أن تُفعّل المجالس المحلية دورها، أن تُوجّه الجمعيات الخيرية إمكانياتها لدعم تعليم وعمل فتيات القرى بأمان وكرامة.
حين تُزهق أرواح شابة في لحظة، علينا ألا ننظر إليهن كخبر عابر في نشرة المساء، بل كبناتنا نحن، وكأخواتنا، وكحكايات كانت تستحق أن تُكتب في دفتر الوطن بحبر النجاح، لا بدم الحوادث.
وختاماً .. إلى زهرات المنوفية…
كنتن أشجع مما يجب، وأطهر مما تحتمل هذه الأرض، وأسمى من أن تُنسين بعد دفنكن.
لقد علّمتننا في رحيلكن أن الحياة ليست دائمًا منصفة، لكنّ الله أعدل من كل ما نعرف.
وإلى من بقي في هذه الأرض…
افعلوا شيئًا يليق بهن، اسعوا لتأمين وسائل نقل تحفظ أرواح من تبقين، وارفعوا أصواتكن لأجل كل فتاة ما زالت تركب نفس الطريق… حتى لا تكون القادمة.
سلامًا عليكن… وسلامًا على كل يدٍ طاهرة امتدت لبناء بيتها، فرجعت إلى ربها وقد أكملت رسالتها



